فجأة رآها بعد طول غياب وتنقل وسفر والحياة فى بلاد ضبابية وأرض ثلجية ومشاعر باردة فهناك مكثت وعاشت أعواما تلو أعوام تخلل ذلك كله بينه هو القابع هنا بشوقه ولهفته بل حبه التى لا تدرى عنه شيئا وبينها وهى القابعة هناك حيث تحكى له الشاردة والواردة فى أدق التفاصيل الحياتية لها فى مكالمات عابرة وطويلة ورسائل نصية ورنات معبرة وأحيانا شد وجذب وخصام سرعان مايتبدد برسالة منها أو منه.. هى الآن أمامه بوجهها الصبوح وشعرها المنسدل بحرية وعيونها الجميلة والتى يسكن فيهما حزن شجى غير معروف استقر ولم يبارحهما.. صوتها هامس بقوة امرأة تعرف وتعى الفرق بين الكلام وبين الدلال التى لا تمارسه.. ضحكتها قادرة على أن تلف الكون بما فيه من بشر وجماد ليأخذ الكل نصيبه ويتبقى جزء يصعد إلى كواكب أخرى لتنتشى هى الأخرى!. سألها: متى كان الوصول؟.. أجابت أمس الأول.. الصمت كان المتكلم فهو لا يعرف كيف تاهت الكلمات وتلاشت الأسئلة الكثيرة التى يود طرحها فعيناه تستقر على وجهها الملائكى فيتكاسل لسانه وكأنه نسى النطق والأحرف والكلمات.. احتست قهوتها ثم قلبت الفنجال بسرعة على الطبق الصغير وانتظرت قليلا ثم تناولته ثانية بيدها ناظرة فى أركانه مستغرقة فى الخطوط والمنحنيات التى بددت.. سألها: هو إنتى بتعرفى تقرأى الفنجال؟!.. ابتسمت وهى لا تنظر إليه فقد كانت تتابع دوامات البن الصغيرة التى تكونت: والله عادة.. أهو بتسلى.. سألها: وياترى قالك إيه المرة دى؟.. قالت: قال كتير بس يتحقق! غامضة لا تريحه أبدا..! وبدأ الحديث ينساب عن الغربة والوطن والاختلاف والسياسة والفرق.. إلى أن سألها بغتة.. والقلب؟!..أجابت بحزن: القلب؟!..يااااااااه هو لسه فيه قلب يابنى القلب بيضخ الدم عشان نعيش.. أوعى تصدق أنه فيه حاجة تانية غير كده.. أيوه.. مافيهوش غير الدم وبس رايح جاى فيه وهو ماكينة بتضخ وبس.. بتصدق إن فيه حب وهو ده مكانه.. لا لا.. تعال نمشى شويه.. وسار معاها دون أن ينبس خارجا من الفندق محملقا فى غضب لوجوه الناس الناظرة إليهما وكأنها تحسده.. ود لو دعاهم ليسمعوها وهى تتكلم عن القلب!. بجانب الفندق كان هناك ملحق تجارى تجول فيه تشير هنا وهناك للمعروض فتضحك على السعر المرتفع دون مبرر يستحق وهو لا يرى شيئا مما تشير إليه فعيناه لا تفارق وجهها وشفتاها وهى تتكلم فانتبهت أنه لا يسمعها فتوقفت عن الكلام ونظرت إليه طويلا كأنها لم تره إلا الآن فقط.. أمسكت بيده تشابكت أصابعهما فى لهفة.. وسارا دون كلمة.. وقفا أمام المصعد لتنفيذ خطة سرية غير معلنة.. لكن كلما أرادا التنفيذ جاء شخص فانسحبوا.. كل محاولتهما باءت بالفشل فى أن يكونا سويا دون أحد.. مرة تلو أخرى.. وفى السادسة أسرعا بالدخول ونجحت الخطة.. أغلق الباب وهو لا يصدق أنها معه لوحده.. واقتربا.. احتواها فى صدره بشوق السنيين قابلته بلهفة المنتظرة دهرا.. دقيقة؟ وكأنما هى العمر وقد تركز فيها وتوقف بهما المصعد.. خرجا وهو طائر محلق وهى مندهشة مما حدث لكنها أدركت أنها تحبه.. نعم تحبه.. أخذها من يدها فرحا واثقا وهى كطفلة صغيرة لاتدرى أين هى.. سألته إلى أين؟.. أجاب: إلى منزلكم !.. اندهشت هاتوصلنى يعنى؟.. أجاب : لا.. هاطلبك من ماما.. عندك مانع؟!. ضحكت بحب كان منزويا وتوهج الآن وظهر غير مرتعد أو خائف.. واصل كلماته قائلا فى مكر: إنما قولى لى هو القلب بيضخ الدم للجسم بس؟ دى شغلته يعنى؟ أجابته ضاحكة: مين الكدابة اللى قالت الكلام ده!!. وانطلقا غير عابئ بعيون الناس التى كانت ترمقهما بحسد لكن فيروز كان صوتها يأتى من مذياع قريب وكأنها تغنى لهما فقط: و ندهنى حبيبى جيت بلا سؤال.. من نومى سرقنى من راحة البال.. و أنا على دربو ودربو عالجمال.. يا شمس المحبة حكايتنا أغزلى.