قد نتفق وقد نختلف، ولكن الأكيد أننا نتكلم.. وطبعاً لابد أن نفكر قبل أن نتكلم، فالحديث بين الناس هو صورة من صور تبادل الأفكار، وبالتبادل تنشأ المعرفة، وبالمعرفة يأتى التقدم والتطور.. يا سادة إن الحوار هو بداية التقدم. أما إذا كان الحوار بيننا ملئ بالخصومة والقتال، فإننا بهذا نحاول قتل الفكرة فى عقول الآخرين.. ثم الكلمة على ألسنتهم.. ثم حقهم فى المعرفة والمعلومة.. وبمعنى آخر فنحن نقتل التقدم والتطور، وساعتها لن يبقى لنا إلا التقدم من خلال مبدأ "فى محلك.. سر"، وترجمتها عند الأمم والشعوب وكأننا نقول "فى مكانك.. تقدم"!!. ومبدأ التحرك فى المكان هو محاولة ساذجة لإقناع الذات بأنها تفعل ما عليها فعله، وليس مهماً إذا لم يتحقق إنجاز جديد أو حتى نرتد لمكان قديم.. وقد يبدو أحياناً أن تقييم وضعنا الحالى الحقيقى ليس فى الحسبان.. حتى لا نرى فضيحة الجمود بالجسد والعقل والحياة كلها. إن لغة الحوار.. أو قبولى بأن أتحاور معك معناها مليون حاجة قبل معنى أنى أختلف معك، معناها أنى أحترمك وأحترم حقك فى التعبير عن أفكارك وأحلامك، ومعناها أنى أحترم نفسى وأعطيها المجال الحقيقى لتثبت جدارتها فى التعبير عن أفكارها هى الأخرى.. ومعناها أنى أحترم المجتمع كله، والذى من المفترض أن يستفيد من حواراتنا معاً. وهكذا أستطيع أن أؤكد بأن كلمة "حوار" معناها أن بيننا ثلاثة كنوز ألا وهى: تساوى فى المقدار، حرية فى التفكير وعدالة فى التعبير.. لكن الواقع بين أيدينا يفتقر لهذه المعانى. كنز فى التاريخ افتقدناه.. اسمه "أدب الحوار".. كان يضمن الحقوق بين المتحاورين فى حب وأمان، والحقيقة أنه كان مبنى على الثقة فى الآخر، وعندما فقدنا ثقتنا فى أنفسنا وفى عدل الآخرين كان من الطبيعى ألا نترك لهم ساحة الرأى، خوفاً من أن يقوموا بظلمنا أو تضليلنا مرة أخرى، فتحول الحوار وتبادل الأفكار لصراع دامى على حق الوجود للفكرة الواحدة، فلم يعد حوارا ولكنه أصبح صراعا من أجل البقاء، وبدلا من ورود الكلمات المتبادلة أصبحت الشتائم والسباب هى اللغة السائدة.. إنه قتال، وفى القتال معظم المحارم حلال.. أو هكذا يظنون. إن العقل الملئ بالاحترام المتبادل والحجج الواعية الحقيقية لا يخشى ظالماً أو مدعى حق، فأمام الثقة بالنفس والحجج الحقيقية القوية تسقط كل أقنعة الزيف.. ولو بعد حين لكنها تسقط، والحوار المحترم دائماً ما يثرى المستمع ويجعله مشاركا حقيقيا، وبما أن المشاركة مطلب عام وشعبى فى كل مجالات حياتنا، فإنى أكاد أجزم أن البداية تستحق أن تكون مع أدب الحوار، الذى يجب أن يتحلى به الكبار فى نقاشاتهم ويناقشه الصغار على جدران قلوبهم، لعلنا نحصل على جيل يستطيع يوماً.. أن ينهى حواراً.