من رحم استنساخ النجاح وُلدت فكرة مسخ روائع السينما العالمية أو "دبلجتها" بالمصطلح الفنى الذى يروج له كثير من منتجى المسلسلات فى العالم العربى، فما أن نجحت فكرة دبلجة المسلسل التركى "نور" فى جذب قلوب ومشاعر الجمهور العربى حتى تكاثرت الفكرة وانتشرت فى جسد الدراما العربية كانتشار النار فى الهشيم، فهذا مسلسل هندى بلهجة كويتية وذاك فيلم أمريكى بلكنة مصرية عامية، أما ذاك فمسلسل مكسيكى بلهجة "لبنانية".. الأمر بالطبع ليس جديداً علينا كعرب، فكل ما هو ناجح فهو فى سبيله إلى استنساخ، ولكن هل فكر هؤلاء المنتجون وتلك القنوات التى تتبنى الفكرة لعرضها على شاشاتها من أين جاءت فكرة التعريب؟ وماذا كان الهدف منها؟ أعتقد لا لأنهم إذا كانوا يدركون معنى هذا لما أقدموا على تعميم الفكرة على روائع السينما الهوليودية التى باتت –على أيديهم- أشبه بجسد بلا روح، فالحقيقة التى ذكرها الناقد كمال رمزى فى مقاله بجريدة الشروق المصرية تشير إلى أن الحكم الفاشى وراء انتشار الدبلجة آنذاك، حيث قرر الدوتشى موسولينى فرض قانون "الدبلجة" بأن يتم استبدال أصوات ممثلى الأفلام الأجنبية بأصوات ممثلين إيطاليين، كنوع من أنواع الرقابة المشددة لحذف وتغيير جمل الحوار التى لا تتماشى مع الفكر الفاشى، وأكد رمزى فى مقاله أن الأمر وصل إلى حد قلب المعنى وإعادة رسم العلاقات بين أبطال الفيلم. والأدهى من ذلك أن تلك الدبلجة كانت بهدف منع والقضاء على تواصل الجمهور مع اللغات الأجنبية، خوفا من الاطلاع على ثقافات أخرى مغايرة للثقافة الفاشية.. الطريف فى الأمر أن قرار موسولينى لاقى ترحيبا واسعا فى كل من ألمانيا النازية وأسبانيا الديكتاتورية، وبدأت النقابات الفنية فى تبنى هذه الفكرة وتقنينها بدعوى تخفيف بطالة الممثلين إبان تراجع الإنتاج السينمائى خلال الحرب العالمية الثانية. انتشر الأمر حتى ارتبطت أصوات الممثلين الإيطاليين بنظرائهم الأمريكان، فإذا أرادوا دبلجة دور كيرك دوجلاس فإن هناك ممثلا متخصصاً فى صوت دوجلاس وهكذا، ومع مرور الوقت. اليوم صارت دبلجة الأفلام والمسلسلات الأجنبية فوبيا تهدد الدراما سواء العربية أو الأجنبية، فأبسط أعراضها هو عدم تعرف البسطاء ممن لا يعرفون اللغات على أى كلمة أجنبية حتى ولو كانت بسيطة مما يتعامل به الناس مع بعضهم فى المواقف العامة، وأخطرها أنها تفرغ الفيلم الأجنبى من محتواه وتفقده هويته، فإذا كانت الترجمة تُفقد الفيلم الأجنبى روحه بدرجة واحدة، فإن الدبلجة تفقده هويته وروحه بدرجتين أو أكثر، فالممثل لديه كثير من الأدوات التى يفقدها بسهولة بفضل هذه الدبلجة فلن يقنعنى أحد أن أتقبل مثلا روبرت دى نيرو بأى لهجة عربية، ومن المستحيل أن أستمتع بأداء آل باتشينو فى حالة فقدانه صوته الحقيقى؛ ذلك أن صوته هو جزء من شخصيته وأحد أدواته المهمة فى سبيل إقناع المشاهد بدوره، أما روبين ويليامز فأتوقع أنه سيفقد أيضا حسه الكوميدى العالى جدا حتى لو جسده بصوته أفضل ممثلى الكوميديا العرب.. أما إذا تحدثنا مثلا عن أفلام الأكشن الأمريكية الشهيرة التى تحبس أنفاسنا تأثراً بروعتها فقد شعرت أمامها بأنها صارت "خناقة فى حارة"؛ ذلك أنه لا يتم الاستعانة بخبراء المؤثرات الصوتية، فى تلك الأفلام التاريخية التى تحتاج مشاهد المعارك فيها لمثل هذه المؤثرات، وهو ما يضع المُشاهد أمام معارك باهتة خافتة، نظرا للاختلاف بين مشاهد تجرى فى أماكن مفتوحة وبين تسجيل صوتى للممثلين يتم فى الاستوديوهات المغلقة، فالفارق بين هذا وذاك كبيرة جدا. ناهيك عن فكرة اللهجة التى ستتم بها الدبلجة، فبينما نجحت اللهجة السورية فى توصيل الهدف منها فى تقديم المسلسلات التركية، إلا أن العربية الفصحى لم تنجح فى دبلجة الأفلام الأمريكية رغم أنها كانت فى حالة "الإسكندر الأكبر" ضرورية، نظراً لكونه فيلماً تاريخياً، ولكن طبيعة الأصوات التى تمت بها الدبلجة لم تكن مناسبة تماماً للشخصيات التى جسدتها، كما أن اختلاف مطابقة الصوت العربى مع حركة شفاه الممثل الأجنبى يفقد المتلقى تواصله مع العمل.. أرجوكم لا تفقدونا تواصلنا مع اللغات الأخرى فى أكثر الوسائط الفنية أهمية.. السينما. كاتب صحفى بالأهرام