لقد جاء انعقاد المؤتمرين السابقين فى ظل ظروف حاسمة كان المجمع الدولى يمر بها، فتواكب الأول مع انعقاد قمة الألفية الثالثة، واختتم أعماله باعتماد إعلان حمل عنوان "الرؤية البرلمانية للتعاون الدولى على أعتاب الألفية الثالثة". أما المؤتمر الثانى فعقد بهدف متابعة التقدم المحرز على طريق تطبيق الأهداف الإنمائية للألفية. ولعل التأمل فى عنوان مؤتمر اليوم المطروح للنقاش بيننا اليوم، يكشف لنا عن عدة حقائق مهمة". الحقيقة الأولى: هى أن نمط الأزمات التى تعانى منها دول العالم اليوم أصبح مختلفا بشكل جذرى عن ذلك الذى عانت منها البشرية فى الماضى، فأزمات عالم اليوم لم تعد تتعلق فقط بتهديد الأمن والسلم الدوليين مثلما كان الأمر خلا القرن الماضى، وإن كانت هذه الأزمة مازالت واضحة فى بضعة بقاع من العالم وفى مقدمتها منطقة الشرق الأوسط، حيث يعتبر الصراع العربى الإسرائيلى عنصراً حاكماً فى هذه المنطقة رغم اختلاف الأجيال واختلاف المواقف والمسارات وهى أزمة تعرض الأمن والسلم الدوليين للخطر، وأصبحت السمة السائدة فى أزمات عالم اليوم هو طابعها الداخلى وامتداداتها الخارجية، ولعل الأزمة الاقتصادية العالمية نموذج مباشر لذلك، فعلى الرغم من أنها بدأت كأزمة داخلية، إلا أن تداعياتها امتدت إلى دول العالم حتى أصبحت واحدة من أخطر الأزمات المالية والاقتصادية على مدار تاريخ البشرية. هذا بالإضافة إلى أنماط أخرى من الأزمات تتعلق بالتهديدات التى تعرض لها حقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية وما تتطلبه من حوار بين الثقافات والحضارات لضمان التفاهم المشترك بين أبناء البشرية والتى يجب أن تكون ثورة الاتصالات والمعرفة خادمة لها وليست عاملاً للصراع فيما بينها، كل ذلك بجانب أزمة الغذاء العالمى وأزمة انتشار بعض الأمراض والأوبئة، ورغم الطابع الداخلى لهذه الأزمات، إلا أنها تمثل تهديداً لقيم عالمية استقرت فى الضمير العالمى، وعبر عنها كل من القانون الدولى لحقوق الإنسان والقانون الدولى لحقوق الإنسان والقانون الدولى الإنسانى. هذا بجانب أزمة تلوح بوادرها فى الأفق، وتتعلق بالتغيرات المناخية، وهى أزمة بالغة الخطورة تهدد القدرة البشرية على البقاء والعيش فى أمن ورخاء. أما الحقيقة الثانية: فهى أن البرلمانات ليست بعيدة بدورها عن تلك الأزمات سبباً ونتيجة، ذلك أن جانباً كبيراً من تلك الأزمات يوجب أن تنهض البرلمانات بالقيام بأحد أدوارها الرئيسية وهو المساءلة والرقابة على أعمال الحكومات، فإذا كانت صلاحية التشريع تمثل أولى واجبات البرلمانات فى العالم ومنها اكتسبت تلك البرلمانات صفة السلطة التشريعية فإن مراقبة الحكومة فى تطبيقها لتلك القوانين أمر ضرورى لضمان شرعية أعمالها. ومما يلفت النظر أن عدداً كبيراً من الأزمات ذات الأبعاد العالمية وقعت فى دول راسخة فى الديمقراطية تحاول نقل تجربتها الديمقراطية إلى النامية. ومن ثم، فإنه فى ظل الأزمات والتحديات الجسيمة التى تواجهها عالمياً وإقليمياً لا يسعنا نحن البرلمانيون ممثلو الشعوب الأكثر التصاقاً بهم وقدرة على التعبير عن مصالحهم والدفاع عنها أن نقف مكتوفى الأيدى لا نحرك ساكناً لنجدة شعوبنا مكتفين بما تقوم به الحكومات، بل يتعين علينا أن نكون فى طليعة المدافعين عن مصالح هذه الشعوب. إذا كانت المساءلة الديمقراطية ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها فى قيام البرلمانات بدورها فى التصدى للأزمات والتحديات التى يواجهها العالم اليوم، فهى فى حد ذاتها ليست كافية، وإنما تتطلب مواجهة الأزمات إلى جانب ذلك تكثيف وتيرة التعاون البرلمانى الدولى بين البرلمانات فى مختلف دول العالم، وهنا تأتى أهمية الدبلوماسية البرلمانية فى التعامل مع الأزمات. فلم تعد الحكومات هى الجهة الوحيدة فى العملية الدبلوماسية، وإنما واكب ذلك تزايد نشاط البرلمانات فى قضايا السلام والأمن الدوليين. لقد انقضى زمن التعامل مع الدبلوماسية البرلمانية بوصفها مجرد منبر للدفاع عن موقف ما فى مواجهة موقف آخر. وهنا يمكن للاتحاد البرلمانى الدولى أن يلعب دوراً ملموساً فى ترشيد التعاون البرلمانى الدولى يحدد له وجهته ويرشد مسيرته، ويمكن لهذا الاتحاد الدولى من خلال لجنة السلام والأمن الدوليين وحقوق الإنسان أن يكفل لهذه اللجنة الاجتماعية بصفة دورية لمناقشة الأحداث السياسية المهددة للسلام والأمن الدوليين وقت حدوثها وإبداء الرأى فيما يعرض على مجلس الأمن حتى يصدر رأيها متحرراً من ضغوط الدول الكبرى صاحبة المقاعد الدائمة ومن ازدواجية المعايير التى تتبناها وتراقب بذلك أعمال مجلس الأمن فى تناولها لهذه الموضوعات. أتمنى أن نخرج من مؤتمرنا هذا بما نصبوا إليه جميعاً من أهداف وغايات كبرى تنعكس على مسيرة العمل البرلمانى الدولى بما يحقق أهداف وتطلعات الشعوب فى جميع دول العالم.