مشى يتسكع فى شارع طلعت حرب بوسط القاهرة.. يطالع الفاترينات.. توقفت سيارة فارهة بجانبه.. وجدها تحمل لوحات دبلوماسية.. نزل منها رجل يلبس نظارة سوداء ولباسا كاملا أنيقا.. فاحت فى المكان رائحة برفان فاخر رقيق. رأى الرجل ينظر إليه.. خلع النظارة.. تطلع فيه بدهشة.. الله يخرب!!.. وقفت باقى الكلمات فى حلقه.. ازيك يا كمال..!! إيه الصدف السعيدة دى.. من سنين ماشفتكش.. يعنى اللى يشتغل فى السلك الدبلوماسى ينسى أصحابه.. ده كلام..!! أنت عارف كل يوم سفريات أنا حتى أهلى بشوفهم بالعافيه. أسمع تعالى.. أنا معزوم على حفلة كوكتيل..أنا حقعد عشر دقايق وأمشى لأنى مستعجل تعالى معايا.. فرصه.. هتشوف جو عمرك ماشفته وبالمرة ندردش.. دفعه الفضول.. ماشى الكلام.. توقفا أمام عمارة من عمارات وسط البلد العريقة.. صعدوا.. دق الجرس.. فتح الباب. أحس بأنه ومن خلال خطوة واحدة أنتقل من زمان إلى زمان.. ومن مكان إلى مكان.. أنفه تشم روائح بارفانات لم يشمها من قبل.. عينه ترى أناسا تلمع وجوههم أشكالهم متعددة كأن الكرة الأرضية تجمعت بتلك الشقة التى تبدو كالقصر.. أصوات هامسة وشياكة وبهاء فوق العادة.. الكئوس فى الأيادى تتداخل ألوان محتوياتها كأنها لوحات سريالية.. المكان ملىء بلوحات تخطف الأبصار معلقة على الحوائط وتحف كثيرة متناثرة هنا وهناك.. أحس كأنه على ابن الريس عبد الواحد عندما دخل قصر الباشا فى "رد قلبى". جاء صاحب البيت مبتسما ومرحبا.. قدمه صديقه إليه ثم أردف قائلا.. وطبعا الباشا مش محتاج تعريف.. نظر إليه.. معقول.. هذا الرجل السياسى المشهور الذى طالما شاهده فى الفضائيات وهو ينظر من تحت نظارته يتحدث عن الصالح والطالح وعن هموم المواطن والوطن ومصالحه العليا..!! جاء من يقدم لهما التحية.. ويسكى ولا شامبانيا ولا سعادتك تحب كوكتيل!! أعتذر بأنه لا يشرب.. فوجئ بمضيفهم يقول تبقى زى أنا كمان مابشربش.. مش معقول قالها ونظره يتجه للبار الكبير الذى يمتلأ بأشكال وأنواع وألوان من الزجاجات لاحصر لها.. رد قائلا: لا.. حاشا وكلا.. أنا حاجج خمس مرات.. البار ده علشان تحية ضيوف مصر من الأجانب وعمل الواجب معاهم..!! الراجل ده بيقول كلام زى الفل..!! قالها لنفسه.. وسرح به الخيال.. أكيد هو برضه لما بيروح يزورهم فى بلادهم ما بيقصروش معاه.. وبيقوموا معاه بالواجب.. ملوخية بالأرانب ورز بالخلطة وطواجن محشى ورق العنب بالكوارع.. أم على بالزبيب والمكسرات.. القهوة المحوجة على الريحة وكباية الحلابسة بالشطة واللمون..!! أنتبه على كلمات الرجل.. الأمر لا يخلو من منفعة.. وهم فى الحالة دى من الونونة والمزاج العالى بيوقعوا على عقود صفقات كبيرة.. ضحك قائلا:عارفين الفكرة دى جاتلى منين.. مش هتصدقوا.. أخدتها من أستيفان روستى فى فيلم عزيزة الهبلة..!! برافو عليك يا باشا.. فعلا فكرة عبقرية.. وربنا يخليكوا لنا ولمصر.. ماشاء الله جهودكم جبارة والناس كلها حاسة بيها..!! قال الباشا وقد ازدادت عيناه ضيقا.. المشكله أن الناس عايزة كل شىء على الجاهز.. أديك شايف إحنا بنتعب أد إيه.. لكن الضيوف دول أول ما ينزلوا ويتعاملوا مع المواطن العادى بيحصل لهم مشاكل كتيرة.. مفيش ثقافة التعامل مع الأجانب.. وإلا كان زمنا أحسن من أسبانيا فى السياحة.. وقبل أن يعقب بكلمة أمسك صديقه الدبلوماسى بيده وقال طيب يا سعادة الباشا نستأذن أحسن عازم ضيوف فى الفيلا فى الشيخ زايد ولازم أروح. أنت لسه ساكن فى الهرم.. ماتيجى أوصلك فى سكتى.. لأ.. أنا حاخد المترو هوصل قبلك.. عندك حق.. دنا وأنا جاى كنت مع وفد من الأممالمتحدة رايحين إمبابة ماعرفناش نوصل.. الأهالى قاطعين السكة.. بيقولوا متضامنين مع الأهالى اللى قاطعين سكة تانية فى وراق العرب.. موضة جديدة حكاية قطع السكك..!! ولسه.. أنا سامع أن الأهالى قاطعين سكة المحور كمان.. قال إيه.. صدر قرار أن طريق المحور وأى طريق جديد يكون تابعا لمحافظة الوادى الجديد.. طيب أنا مش فاهم إيه اللى مزعل الناس؟؟..مش عارف!!.. وطريق فيصل والهرم مقطوعين على طول منه فيه.. ربنا معاك.. تواعدا على لقاء.. يعرفان أنه لن يتم..!! مشى يكلم نفسه مثل عماد حمدى فى "ثرثره فوق النيل" بعد أن قفزت لذهنه كلمات الباشا صاحب الحفلة.. أحس بالخجل.. إحنا ناس سلبيين.. ومابنساعدش بلدنا.. بتستلف من اللى يسوى واللى مايسواش علشان تصرف على التنابلة من أمثالنا.. حالها عدمان.. باعوا عفشها ونحاسها وشغالين فى تفكيك البلاط ومواسير السباكة..!! طيب اللى زينا يساعد أزاى؟؟.. صاح مثل نيوتن وجدتها.. الحل فى الأجانب والسياحه.. ولكن الناس إمكانياتها بسيطة.. طيب لو الباشا يتوسط عند الحكومة أنها تدعم المواطن دعم بسيط يبقى مشكور وعمل اللى عليه فى المشروع القومى ده.. يعنى لو يصرفوا على بطاقة التموين أيقونه صغيرة من الويسكى وزجاجة كونياك وشوية مزة.. كيلو سودانى مقشر وملو قرطاس زبيب.. يبقى ميت فل وعشره وكتيب سلاح المواطن لخدمة الضيف وتقديم المزة والكيف.. تبقى قشطة يا باشا.. وياريت جركنين ميه نضاف وكمان أزازتين جاز علشان لو النور انقطع.. كده يبقى مالناش حجة والسياحة هتبقى مية مية ومش ملاحقين..!! وهو غارق فى تأملاته.. إذا بهرج ومرج وأناس تجرى.. سأل بائع الجرائد العجوز الذى كان يلم فرشته على عجل.. هو فيه إيه يا حاج..!! الناس دى بتجرى ليه؟؟.. رد بدون أن يلتفت إليه.. سفارة بوركينا فاسو بتوزع استمارات للهجرة.. فاسو..!! وفاسو إيه دى كمان؟؟.. نظر الرجل إليه بعيون تكاد أن تلتهمه.. أنت باين عليك رايق.. أنا مش فاضيلك...أنا قصدى أسأل.. بلد كويسة يعنى؟؟.. مش عارف.. قالها وهو يجرى..!! بدون أن يشعر وجد نفسه يجرى معه.. انحشر وسط الزحام وأصبح الشارع يبدو كأنه سباق للماراثون.. وهو يجرى سمع صوت أغنيه ينطلق من محل لعصير القصب..عظيمه يا مصر.. يا أرض النعم.. يا مهد الحضارة يا بحر الكرم.. نيلك ده سكر.. جوك معطر.. بدرك منور.. بين الأمم.. عظيمة يا مصر يا أرض النعم..!!