ما زال يستيقظ كعادته فى الثانية صباحًا، لا يحول بينه وبين ذلك حائل، عمله المُجهد، بدنه النحيل، بياض شعره الذى يحتل يوماً بعد يوم ما تبقى من رأسه منتشراً على الجوانب، علها الغربة التى عكف عليها منذ العشرين عاماً التى سبقت عامه الستين، أراقبه كل يوم بلا تربص، فهو على الفراش المواجه لفراشى، يتوضأ ثم يصلى فى آليه، بين قيام وقعود، ما قدر له أن يفعل، يمتطى سجادة الصلاة جالساً، وبين يديه كتاب الله، يُحرك شفتيه بلا أدنى حراك لعلامات وجهه، أظنه التعود، أم أنه قارئ جاد وماهر، وسع كتاب الله حفظاً، فلم يعد ذكر النار يحزنه، أو ذكر النعيم يدعوه للابتسام والتفاؤل، لماذا الوجه جامد كأنه لميت، أخاف أن أظن أنه مثلى يحمل على كتفيه خطاياه العديدة من شبابه المنقضى، وربما أجهد عتيده من التدوين، يا ويح الشباب وما يفعل بنا، بقدر ما يٌضحكنا ويفرحنا، يبكينا بعد انقضائه عليه وعلينا، وما جنى منا وما جنينا منه، ما زلت أمارس حيلتى وأنا أدور على الوسادة حتى لا يرانى، يقظا أو نائما لا يعنيه ولا يكترث، فقد قاطعنى منذ ما يزيد عن الثلاثة أسابيع المنقضية، ولم يٌبادر بالسلام أو الكلام، وما زال يصدق قسمه المغلظ بأننى أكلت من خبزه الذى وضعه بالثلاجة المشتركة بيننا، ويعلم الله أن يدى لم تمتد إليه كما يزعم، وما الداعى لهذه المقاطعة وقد أحضرت له بدلاً منه رغم تعففى عن الحدث، وقبله بلا أى مجاملة، لكنه ظل جامداً، يرمقنى فى ذهابى وإيابى صامتاً وصلباً، ولم يذهب عنه غيظه إلا القليل منه وهو يسب لاعبى الزمالك أثناء مشاهدة المباراة سوياً، ثمانية من الفتيان يحملون شيبته على أعناقهم، لا نتلفظ بما يدعوه للغضب الذى لا ينقشع حتى بصلاة الفجر التى ينصرف إليها الآن، وأظنها اقتربت، فها هو يتوجه بالنظر إلى ساعة الحائط فوق فراشى، فأحكم عيناى على النوم، يرتدى جلبابه الأبيض الواحد القصير، وينصرف فى الرابعة، أطلقت جفونى تراقب الباب المنغلق فى هوادة، فيأتى صوته وكأنه رجع الزمان، أيام تتكرر، لا، إنه يوم واحد فحسب، له سبعة أسماء، نُناديه كل يوم بمسمى حتى نٌقنع أنفسنا أننا نسير للأمام وثم شىء متغير، لا جديد، الغربة تتشابه ليلاً ونهاراً، نهار يأكله العمل المتكرر فهو دوام كما يقولون عنه، من الدوام والتكرار، ونقاش حاد، ضحكات صادقة وأخرى غير ذلك، وشكوى لا تنتهى من عدم الجدوى من البعد عن الأحباب والأوطان، عبارات المساندة لا تنقطع بين الحين والآخر (رب هنا ...رب هناك) وأمثلة النجاح والفشل بين هناك وهنا، إنه عدم الرضا وحسب، ومن يَنصح لا يختلف عمن يُنصح، هو غير ذلك لا ينصح ولا يُنصح، ولكن أليس الدين النصيحة؟ وكيف وهو صاحب العشرين حولاً بعيداً عن صلة أهله، يمنع عنهم حقوقهم، كما يمنعنا نحن الثمانية بشقة الكرامة، التى تشابه صالة الجلوس بمنزل قريتنا، الأجساد تتلاحم فيها، وتتلاطم بين طرقتها الضيقة، وانتظار الدور فى كل شىء مقدس، لا يقدر أحد على البطش به، إلا هو، وحده لاشريك له فى انتهاكه، أوانى الطعام بيننا تنتقل بين يد ويد، وأرفف الثلاجة خاصته معلومة الملكية وموثقة، آآآه علنى أنفجر وأسأله أين طبعه من طبيعته، وأين قوله من فعله، وعمله من معاملته؟؟ الصمت جبرى لقد طار النوم من النافذة ودخل صوت المؤذن ينادى، الصلاة خير من النوم، حقاً خير، ولكن من الخير أن يصفح عنى ويتذكرنى وهو ساجد أو يؤدى السجود، ألست فى عُمر ولده الصغير أو حفيده الكبير، غير أننى أراه ولا يراه من هو من نسله، فكيف لى أن أطمع فى أن يتعامل معى بغير مبادئه التى أخبرونى بها من هم قبلى، إننى لا أعُد فى نظره سوى الرقم خمسه من رواد الشقة، حقاً أننى تعجبت فى أيامى الأوائل، وهو يخرج من بين ثنايا ثوبه تفاحة ويأكلها وأنا أنظر إليه فى تعجب ودهشه، ولم يدعونى بأى من حواسه للمشاركة أو مجرد العرض بالإيحاء لم يحدث، حريص هو كما علمت، على نفسه وعلى الجميع وأهله ينتظرونه فقط بلا طمع فى ثروته إنهم فقط يريدونه ليس حاملاً لشىء ولكن ليس محمولاً أيضاً، لماذا لا أصلى الصبح مثله، ذنبى أننى ربما لا أصلى الصبح إلا بعد شروق الشمس، وأحزن كثيراً لذلك، ولكنى كثير الحزن رغم ابتسامى الدائم، لا آكل منفرداً أبداً إلا بالكاد– وهو يفعل– جميعهم يُظهرون لى الود، فأنا أحترمهم وأوقرهم، يالنفسى وإعجابها بذاتها، بماذا أفكر؟! سأتوجه بجانبى الأيمن إلى الفراش، كم أعانى أننى ما زلت غير معتاد على النوم على الجانب الأيمن، دوماً أحب أن أنظر إلى الحائط الذى خلفى وأنا نائم، واستقبله حتى أكتب عليه أحلامى، أول حبات النور تهبط على فراشى، الآن على النهوض، وعليه العودة، لكنى لابد أن أتلقى الأمل المعتاد فى نظرتى للشرفة صديقة الشمس، هذه المرة عاودت النظر إلى حائطى الخلفى وأنا على جانبى الأيسر، لو أننى لم أنهض إلى الأبد، ولم يعد هو، والتقينا هناك، كيف يكون المصير؟ ياله من سؤال كل يوم يتكرر كأيامى.