إنه يوم حار جداً من صيف 1998م، وكان طاهر ذاهباً إلى مقر شركته للخدمات الأمنية والتى يعمل بها ضابط أمن أو حارس أمن أو شىء من هذا القبيل، فبعد أن أنهى ورديَّتهُ الليلية بإحدى العمارات الفاخرة بالمعادى، على بعد أبنية قليلة من مستشفى مبَرَّة المعادى، والتى يقطنها مصريون وأجانب من علية القوم، ركب المترو من ثكنات المعادى إلى غَمرَّه، ومن غمَّره ركب مترو "ترام" الميرغنى الذى يتهادى على قضبانه منذ تسعين عاماً تقريباً (منذ 1908م)، وعندما وقف المترو فى محطة "السبع بنات" نزل طاهر مٌتجهاً إلى شركته لطلب سلفة، بعد أن بدأت الجنيهات القليلة التى معه تتبخر بسرعة شديدة، ومازال باقياً عشرة أيام حَتَّى يحصل على راتبه، وكانت الصدمة المتوقعة لأى إنسان ما عدا طاهر، فاليوم هو عيد المولد النبوى الشريف، والشركة مغلقة، وغَداً الجمعة، ولكن حاجته للمال جعلته لا يدرى يومه من أمسَهُ، وعاد أدراجه خائباً، حَزيناً، مهموماً ، ليركب مترو الميرغنى . أحصى ما معه من نقود بعد أن أعطى الكُمْسارى ثمن التذكرة، فوًجَدَها ثلاثة جنيهات وخمسة وسبعين قرشاً فقط! أخذ الباعة الجائلين يصولون ويجولون فى العربة مُقحمين أنفسهم على الركاب لكى يشتروا حاجياتهم، ثُمَّ صعد الى المترو بائع للجرائد القديمة، وتناول جريدة من الجرائد التى يحملها، ثُمَّ أخذ فى قراءة عناوين الصفحة الأولى صائحاً:- مع الصحافة الجريئة.. إقرأ وإتسلَّى.. وزير الدفاع السورى يدافع عن الكاتب حيدر حيدر الذى أثارت روايته "وليمة لأعشاب البحر" جدلاً ومظاهرات.. إقرأ وإتسلَّى.. لماذا فصل أنور السادات.. إبراهيم سعدة؟! الأم قَتلت الخال بعد أن مارس الجنس مع ابنتها.. الجريدة تنشر الفصل الأول من رواية "وليمة لأعشاب البحر" التى قامت بسببها المُظَاهرات.. إقرأ وإتسلَّى ب 25 قرش. قال طاهر لنفسه:- يا بلاش.. كل ده ب25 قرش فقط!!، استمر البائع فى قراءة عناوين الصفحة الأولى من جريدة أخرى، ثُمَّ أشار له البعض إلى أنهم يريدون شراء جريدة، كل هذا والمترو يطوى المحطات.. محطة تلو الأخرى فى تؤدة ومهل، ثُمَّ صعدت إلى المترو فتاة جميلة.. رقيقة كالنسيم.. يفوح منها رائحة عبير تجعل القلب ينتشى ويُحلِّق ويطير، جلست على مقعد فى مواجهة طاهر، فزادت نشوته وهَيَامِه.. نظر إليها .. نظر إلى عينيها .. ما كل هذا السحر ! إن عيونها فى عمق البحر ! ليته يغرق فيهما مدى الدهر ! نظر إلى شفتيها المذمومة اللتان تجعلك تسكر بلا خمر، وتحلم بأن تضمهما شفتاك طول العمر. أخرجت كتاب من حقيبة يدها، وقد لمح طاهر غلافه الذى كتب عليه "الدنيا رواية هزلية".. توفيق الحكيم.. يبدو أنها لا تهتم بجسدها وجمالها فقط، بل تهتم أيضاً بعقلها، وهذا شئ نادر الحدوث.. فنادراً ما يقابل المرء إمرأةً جميلة فاتنة، وفى نفس الوقت مثقفة عاقلة، فالمرأة غالباً ما تهتم بجسدها وجمالها، مُتَخِذَّة كل الوسائل والأساليب للحفاظ على هذا الجسد، وهذا الجمال، المرأة الجميلة الفاتنة بلا ثقافة أو عِلْمْ كتمثال من الشمع لامرأة فاتنة.. قد تنظر إليه طويلاً.. وقد تتحسسها بيدك كثيراً.. ولكنَّك لن تستطيع التواصل معه فكرياً ونفسياً. اقترب المترو من محطة غمرة، فنهض طاهر واقفاً استعداداً للنزول، ووقفت أيضاً تلك الفتاة الخجول. وعند الوصول، ضغط السائق بقوة على الفرامل، بشكل مفاجئ، فأهتَّز المترو بعنف، واختَّل توازن الركَّاب، وإذا بطاهر يجِد تلك الفتاة الساحرة بين أحضانه، فلامس جسدها البض الطرى.. جسده الخشن القوى. نظرت الفتاة إليه نظرة تفيض رقة وحياء، وقالت له على استحياء:- آسفة. آسفة؟؟؟ آسفة لماذا؟؟ هل هى آسفة لأنها وهَبتهُ لحظات من النشوة.. أم أنها آسفة لأنها لن تستطيع أن تمنحه المزيد منها؟؟ نزلت الفتاة الفاتنة، ونزل طاهر أيضاً، وكل منهما سار فى طريقه، وإذا بطاهر يهوى فى وادٍ سحيق بعد الطيران والتحليق، وعاد إلى التفكير العميق من أجل المال الذى يهرب منه فى أغلب الأحوال، ويجب أن يحصل على بعض المال من أى صديق فى أقرب وقت، وإلَّا سيمتَنِع عن الطعام مرغماً إلى أن تأتى المعونة.