حين قدم الإمام محمد عبده عام 1896م إلى مدرسة أسوان الابتدائية رأى أن يطلع على موضوعات الإنشاء التى يكتبها التلاميذ، فلفت انتباهه موضوعٌ قال عن صاحبه: ما أجدر هذا أن يكون كاتبًا بعد! وحينما لقى سعد زغلول صاحب الموضوع للمرة الأولى وبعد سنوات عديدة من رؤيته التاريخية للإمام محمد عبده قال له: أرى أن نبوءة الإمام تتحقق، ولم يمضِ وقت كثير، وإذا بزعيم الأمة يحتفى بالتلميذ القديم ويُجْلسه إلى يمينه فى اجتماعات حزب الوفد وفى مناسباته الكبرى، ويطلق عليه «الكاتب الجبار»! إنه عباس محمود العقاد، عملاق الأدب العربى الذى نحتفى هذه الأيام بالذكرى الخمسين لرحيله عن دنيانا فى 12 مارس 1964م بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس، وكان أحد الموسوعيين الأفذاذ الذين تألقوا فى سماء القرن العشرين ببريق باهر الإضاءة موفور العطاء فى ميادين شتى ورحبة رحابة الثقافة الإنسانية. وكانت ثمرة هذه «الهواية العميقة» كتابات العقاد العديدة فى ميادين السياسة والفلسفة والفكر والتاريخ والفنون والأدب ونقد الشعر، بالإضافة إلى كتاباته عن الأنبياء والشخصيات التاريخية الشهيرة، ومؤلفاته العديدة فى استجلاء جوهر الدين الإسلامى والدفاع عنه والرد على شبهات المستشرقين. مفتاح الشخصية اشتهر العقاد بسلسلة العبقريات التى لاقت صدى هائلاً لدى القارئ العربى، وقد برع فيها وابتكر ما يسمى «بمفتاح الشخصية» باعتباره المدخل الأرحب أو الشفرة الأعمق التى يدخل عبرها إلى استجلاء مظاهر العبقرية لدى الشخصية المدروسة، وهى شخصيات النبى محمد صلى الله عليه وسلم والمسيح عليه السلام وأبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وخالد بن الوليد، وقد تميز العقاد بقدرته الهائلة على التحليل والاستنباط والتفكير المنطقى المنضبط، فضلا على موهبته البارعة فى التجريد واستخلاص أدق المعانى وأرهف الاختلافات برشاقه بالغة وقدرةٍ صياغية باهرة، فنراه يقول مثلاً فى عبقرية عمر: «إن أبا بكر كان يُعجب بمحمد النبى، وعمر كان يعجب بالنبى محمد». وإذا كان وجه العقاد المفكر والكاتب هو أكثر الوجوه شهرة لدى القارئ العام فإن له وجها لا يقل أهمية لدى القارئ المتخصص وهو وجه العقاد المبدع، فالعقاد قد بدأ حياته ينظم الشعر وينظّر مع رفيقيه فى مدرسةٍ الديوان، المازنى وعبدالرحمن شكرى لتصور مغاير عن وظيفة الشاعر وطبيعة الشعر التى كانت سائدة لدى جماعة الإحياء والبعث وشعرائها المشهورين شوقى وحافظ ومن قبلهما البارودى، ورفض شعر المناسبات- وإن كان قد تورط فيه بعد ذلك قائلاً إن المدح عن اقتناع ليس عيبًا- ورأى أن الشعر ينبغى أن يكون تعبيرا عن النفس الإنسانية فى الطبيعة والحياة، وليس التعبير عنها كما يحكيها لنا العرف فى جملته من دون الالتفات إلى الآحاد المتغيرة. وأكد على مفهوم الوحدة العضوية فى القصيدة التى ينبغى أن تكون بنيه حية متماسكة وليس مجموعة من الأبيات المفردة التى لا رابط بينها. وقد توقف المازنى وعبدالرحمن شكرى عن كتابة الشعر، بينما ظل العقاد حريصًا على كتابته طيلة حياته وله أحد عشر ديوانًا أولها يقظة الصباح 1916 وآخرهما «ما بعد البعد» الذى نُشر بعد وفاته عام 1967، كما أن له رواية وحيدة بعنوان «سارة». فى هذه الرواية يكاد يختلط فن الرواية بفن السيرة الذاتية بمنهج التحليل النفسى الذى برع فيه، وطبقه بمعنى من المعانى فى كتابه عن أبى نواس «الحسن بن هانى»، وقد كان أيضًا مولعًا باستخلاص طبيعة الشاعر النفسية ووقائع حياته من شعره كما فعل فى كتاب «ابن الرومى حياته من شعره». الكاتب الجسور أتصور أن ما يبقى من العقاد للتاريخ- إلى جوار كتاباته العميقة التى علمت أجيالاً مصرية عديدة- هو مواقفه الشجاعة وإيمانه المطلق بحرية المفكر وكرامة الأديب، ولعلنا نتذكر جميعًا موقفه العظيم حين وقف تحت قبة البرلمان مطلقًا صرختة الخالدة ضد جبروت الملك فؤاد حين أراد أن يعبث بدستور 23 قائلا: «ألا فليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد أن يسحق أكبر رأس فى البلاد فى سبيل صيانة الدستور وحمايته». وقد عوقب العقاد بعدها بالسجن تسعة أشهر بتهمة العيب فى الذات الملكية، لكنه خرج أقوى مما كان وأنشد أبياته الدافقة بحرارة الصدق أمام ضريح سعد زغلول ببيت الأمة: خرجت له أسعى وفى كل خطوة ... دعاء يؤدى أو ولاء يؤكد لأول من فك الخطى من قيودها ... أوائل خطوى يوم لا يتقيد وكنت جنين السجن تسعة أشهر ... فها أنذا فى ساحة الخلد أولد ففى كل يوم يولد المرء ذو الحجى ... وفى كل يوم ذو الجهالة يلحد وما أفقدت لى ظلمة السجن عزمة ... فما كل ليل حين يغشاك مرقد وما غيبتنى ظلمة السجن عن سنى ... من الرأى يتلو فرقداً منه فرقد عداتى وصحبى لا اختلاف عليهما ... سيعهدنى كل كما كان يعهد رحم الله العقاد الذى أخرج أجيالاً عديدة من المثقفين تعلموا فى مدرسته الفكرية والأدبية ونهلوا من أنهار إبداعاته المتدفقة.