عندما فكرت فى موضوع هذا المقال تناثرت من بين أصابعى الكلمات، وتاهت فى عقلى المعانى والإشارات، وتمنيت أن تكون الكلمات عبارة عن أجزاء صغيرة من قطع الحديد حتى أحضر لها مغناطيسًا يلملمها وأجمع به شتات الأفكار وأرتب به العبارات، وبالفعل وجدت ما جمع أفكارى ورتب كلماتى فهو الفضل من رب العالمين، فما أروع أن يوفقك الله لما تبتغى وتحب وتريد، فما بين قيمة التضحية وحجم الاحتياج سنكتب ونردد وربما نعيد ونزيد، لأن المعنى كبير ومتسع، فالإنسان كما أراد رب العباد هو من يعرف معنى الإيثار مهما كان الاحتياج ومهما أوجعه الأنين. التضحية والاحتياج مصطلحان يظهران فى البداية أنهما متناقضان، لكل من لا يجهد نفسه بقليل من التأمل والتفكير، لأنه مع التفكير تكتشف أن المصطلحين أقرب قريبين ولا يوجد أكثر منهما متشابهان ومترابطان مثل السمك والماء والطير والهواء والشمس والحياة والليل والأحلام.. فكم هما متشابهان؟ ونجيب من خلال هذا السؤال متى نعتبر التضحية فعلا تضحية؟ فلنفكر ونجيب الآن " لن تعتبر التضحية تضحية ولا الإيثار إيثار إلا عندما نضحى بما نحب ونشتهى ونحتاج" وقتها سننال البر أفلم يقل رب الأرض والسماء عندما أرسل شديد القوى من فوق سبع سماوات ليبلغ حبيب العباد والرحمن بأيات القرآن الكريم قائلًا "لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ "آل عمران92" صدقت يا ربنا يا من علمتنا وأوحيت لنبينا، فبالفعل لن يتحول الإنفاق إلى بر إلا عندما ننفق مما نحب ولا التضحية إلى تضحية إلا بما نحب ونحتاج. ألم يقْدم أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام على أن يضحى بفلذة كبده إسماعيل من أجل رب العالمين، ولكن فلننظر بعين المتأمل لعظمة خالقنا ونقول الله هو الحليم الكريم الودود الرحيم، فلقد فدى الله إسماعيل بذبح عظيم.. فالرحمة بعد الطاعة وبعد الاستعداد للتضحية بقلب محب ونفس راضية. ألم تجد محبًا لحبيبه مضحيًا، رغم أنه إليه يحتاج ويشتاق ولكن الحب الحقيقى فى تفضيل مصلحة المحبوب على مصلحة الحبيب، وأن كان الألم شديد فأنت محب ولا يضحى إلا من يحب بصدق وحنين. نقطة ومن أول السطر. كيف سأتكلم وأكتب عن التضحية ولا تحدثنى نفسى عن أمى وأمك وعن كل أم رعاية بحقًا لأبنائها، فهذا هو الأصل فى الأمومة ألم يقل لنا الرسول صلى الله عليه وسلم "الجنة تحت أقدم الأمهات"، تلك هى الأم التى قال عنها شاعرنا المصرى الملقب بشاعر النيل حافظ إبراهيم: الأم مدرسة إذا أعددتها.... أعددت شعبًا طيب الأعراق. الأم عندما تضحى باحتياجاتها ونومها وتسهر على راحة أولادها، ألا تحتاج هى لهذا النوم بل وتتمناه ولكن تضحى به من أجلهم، فالتضحية لا تأتى إلا ومن قبلها المزيد من الاحتياج، وهؤلاء الأبناء هم مستقبل التضحيات من أجل آبائهم وأمهاتهم، ثم فيما بعد أبنائهم وهكذا تدور العجلة بلا توقف، ولا تحويل فأفعل ما شئت كما تدين تدان. وللتذكرة فقط وليس للحصر نذكر تضحية الصديق من أجل الحبيب صلى الله عليه وسلم.. ألم يحبس أبو بكر دموعه وأخفى ألمه، بعد أن لدغه الثعبان حتى لا ينزعج صاحبه فى نومه أثناء رحلة الهجرة للمدينة المنورة.. فما أروع التضحية وما أروع كل الأمثلة حتى من الأمم أمثالنا. ونختم حديثنا قائلين لكل الآباء والأمهات والأبناء والأصدقاء ولكل المحبين ولكل العاشقين ولكل المضحين، لقد اتخذتم قرار التضحية بغير إرادتكم فهى فطرتكم التى فطركم الله عليها، ألم يقل الإمام مالك " فُطرت الناس على الخير" فعلى قدر المحبة تكن التضحية.. وأجمل ما فى التضحية هو أن تجد الوفاء ممن ضحيت من أجله ولو فقط بالدعاء بالمغفرة. والأجمل أن تحتار من ضحى من أجل الآخر هل أنت أم هو، فتلك هى التضحية. عندما تضحى من قلبك ستجد نفسك رغم الألم تبتسم فهى ابتسامة الرضا واليقين فى فضل ربنا، وأنه لا يضيع أجر كل من جعل لنفسه احتسابًا للنية ولهذه التضحية.. وبالأخير فالتضحية من أجل الوطن سيكون لها مقالة خاصة من أجلها.