أعرف زميلاً اضطر للاستدانة من "طوب الأرض"، وقبل أن يحصل على أموال بالربا، حتى يقيم حفل زفافه فى فندق خمس نجوم، ويدعو رئيسه فى العمل، وقيادات المؤسسة لحضور الحفل، ويتباهى أمامهم وأمام أهل العروس بقاعة الفرح ونوع الكوشة وعدد أدوار "تورتة" الزفاف.. وبعد انتهاء الحفل ظل يقتطع من راتبه أكثر من النصف كل شهر، حتى يسدد ما عليه من قروض بسبب إدمانه للتفاخر والتظاهر أمام الأهل والأصدقاء والمعارف والجيران. واذكر زميلاً آخر من أيام الجامعة كان يسكن فى حى شعبى قريب من حى آخر راقٍ، وظل يكذب ويدعى أنه يعيش فى حى الأثرياء، حتى انكشف أمره على طريقة فيلم "أنا لا أكذب ولكنى أتجمل" للنجم الأسمر الراحل أحمد زكى، وكان موقفه مخزياً وتركته الفتاة التى يحبها، لا لأنه يسكن فى حى شعبى عشوائى، ولكن لأنه كذب عليها وعلى الجميع!. وأسمع من زميل آخر الآن كل يوم حكاية مختلفة عن أسباب كراهيته لنظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ورجال ثورة يوليو الذى صادروا أراضى جده الباشا!.. وعن والده المرحوم الذى يقول لى مرة، إنه كان "حكمدار" فى الشرطة ومدير أمن، وينسى أنه قال لى ذلك، ويحكى مرة أخرى عنه باعتبار أنه كان جنرالاً فى الجيش، وحارب فى النكسة وفى النصر، ثم يتحول بعدها بفترة غير طويلة إلى قاضٍ ورئيس محكمة.. أما أحدث أكاذيبه لى فهى أن زوجته أمريكية، وأنه يتحدث معها الإنجليزية، وقد نسى بالطبع أننى سبق أن التقيت به مع زوجته بالصدفة فى أحد "المولات"، وكان مظهرها يدل على أنها عادية جداً، بل وبصراحة "بيئة طحن"!.. ولكن حب "الفشخرة" وادعاء الانتساب إلى الباشوات القدامى والجدد وعلية القوم وأصحاب النفوذ وعقدة الخواجة والإحساس بالدونية ومركبات النقص، كلها أسباب وراء أكاذيب هذا الزميل وغيره ومثله كثيرون. والحقيقة أن هذه النزعة المتأصلة فى معظم المصريين هى السبب فى كثير من المشكلات التى نعانى منها والمصائب التى تحدث لنا، بل تكاد تكون السبب الحقيقى فى خراب البيوت.. وعنوسة البنات وإحجام الشباب عن الزواج.. بل والسبب فى كثير من جرائم الرشوة والسرقة والاختلاس، لأن محاولات البعض للظهور بمظهر لا يتفق مع دخولهم الحقيقية، وسعى البعض الآخر للتشبه بزملائهم أو جيرانهم أو أقاربهم، حتى لا يبدو أنهم أقل منهم فى الشأن أو المكانة، وهذا ما يدفع البعض إلى الكذب فى بعض الأحيان، لتعويض الفارق المادى والاجتماعى ولو بالكلام، ويدفع آخرين إلى الرشوة أو الحصول على المال بأى طريقة، حتى ولو كانت غير مشروعة، حتى لا يراهم الناس فى وضع أقل من أقرانهم. وقال لى مصرى مغترب فى إحدى دول الخليج منذ سنوات طويلة، وفتح الله عليه كثيراً، بعد أن كان فقيراً، إنه لا يشعر بقيمة البدلة الآلية التى يرتديها، أو السيارة الفارة التى يقودها، أو أى شىء يملكه أو يشتريه أو يرتديه، إلا وهو فى مصر، حيث يرى انعكاس صورة هذه الأشياء فى عيون من يعرفهم، ويتحقق بنفسه من نظرات الإعجاب أو الحسد.. وبدون ذلك لا يشعر بأنه قد حقق شيئاً.. بالله عليكم.. ألا يحتاج الكثيرون منا إلى الذهاب وفوراً إلى أقرب طبيب نفسى؟!