هناك أناس يوزعون الضحكات وينثرون البسمات على من حولهم, رغم أنهم يحملون من الهموم ما ينوء طود بحملها, وإذا كشفت عن قلوبهم لوجدتها تتألم وتئن. وتحضرنى حكاية ذات دلالة على ما أقول حدثت بين أحد الأطباء وكاتب كانت صنعته هى المرح والفكاهة, لا يهم الآن اسم الكاتب فكل ما يعنينى من هذه الحكاية هو مغزاها ودلالتها التى تدور حول المعنى الذى بدأت به حديثى. فهذا الكاتب كان يصنع البسمة للناس من خلال سطور يقدمها فى مقال أو كتاب أو مشهد فى مسرحية, وكان يدرك أن الحياة قاسية ولابد من مواجهتها بضحكة تخفف من قسوتها, لأنها ستصبح غير محتملة إذا اختفت هذه الضحكة من على الشفاه.. فجعل قلمه مُسخَّرا لإدخال السعادة والفرح إلى قلوب الآخرين. وبقدر ما صنع المرح للناس, بقدر ما ترسبت فى نفسه أحزان الذين كان يريد أن يخفف عنهم أحزانهم ويبهجهم بكتابته.. فأحس فجأة أنه أصبح مريضًا وصار بائسًا وحزينًا وضائقًا بالحياة, لكنه لم يكف عن صنع المرح والضحكات للناس رغم أن الدموع تملأ عينه والأسى يعتصر قلبه, واستمر هكذا إلى أن أحس أنه لم يعد فى استطاعته الاستمرار وأحس أن مرضه يزداد عليه وأنه يوشك أن يقتله فذهب إلى الطبيب يستشيره ويلتمس عنده الشفاء من ذلك الخطر الذى أيقن أنه يتهدده وفحصه الطبيب مرات ومرات ولم يجد به شيئًا عضويًّا واستطاع الطبيب بعد جهد جهيد أن يحدد مكان العلة التى يشكو منها الكاتب الساخر, إنها فى نفسه وليست فى جسده..إن نفسه حزينة وتعسة وتحتاج إلى من يطبطب عليها ( لم تكن نانسى عجرم قد ولدت بعد) ويحتاج إلى أحد ينقذه من نفسه بعد أن انعكست عليه تعاسات وشقاء الناس الذين كان يريد أن يخلصهم من همومهم بكتاباته. ولم يكن عند الطبيب دواء يصفه للكاتب ولكنه قدح زناد فكره حتى توصل إلى العلاج الذى يخلص مريضه من علته خلاصا نهائيا, ترى ماذا وصف له؟ لقد وصف له الطبيب أن يشاهد المسرحيات المرحة التى يكتبها "فلان" وقراءة كل ما يكتبه للناس ولن يعود بعدها للشكوى لأنه فى الحقيقة ليس مريضا وإنما هو محتاج فقط لأن يدخل فى حياته شيئا من المرح والضحك وأن الكاتب "فلان" سوف يخلصه من جميع الأمراض والعلل التى يشكو منها , وما أن انتهى الطبيب من وصفته حتى أخذ الكاتب يقهقه بصوت عالٍ حتى ظن طبيبه أنه جُنَّ ثم قطع ضحكته الهيستيرية فجأة وتساءل مرة أخرى عن الوصفة وأخذ يضحك بجنون كضحكته الأولى ثم سأل الطبيب: ألا تعرفنى, إننى أنا "فلان" نفسه !! وكانت مفاجأة للطبيب إذ اتضح أنه هو الكاتب الذى أوصاه أن يشاهد ويقرأ جميع أعماله ليتخلص من أمراضه, وفى نهاية الجلسة العلاجية قال الكاتب "فلان" للطبيب: ألا ما أفكه ما كتبت وأنا أكاد أشنق نفسى !! إن هذا ما يحدث مع معظم الساخرين وهذه الحالة تتشابه كثيرا مع عديدين من كتابنا ولعل أقرب هذه الحالات لما قرأته آنفًا هو ما حدث للمبدع صلاح جاهين والساخر الرائع جلال عامر وغيرهما, ولا أملك سوى أن أقول: فعلًا إن من السخرية ما قتل !!