تخفف من بريق "المعرفة" وملاحقة الأعين، وابتعد قريبًا من " الناس"، فى شوارعهم "العادية" المختنقة بالغبار والضجيج، والقمامة المرصوصة هنا وهنالك، وهذا الذى يصيح، وذاك الذى يحاول أن يجد لقدمه مجالا فى ذلك الزحام، وهذا الذى ينظم حركة المرور، فليس هنالك من شرطى واحد، وذاك المشغول بماراثون السولار، وذاك المنحوت على جدار الصمت والدهشة، يرقب المشهد من فوق كرسيه المرصوص، بجوار القمامة المرصوصة، فى المقهى الذى تمدد فى وسط الشارع!. مشى وحده على قدميه لا فى سيارةٍ أو تاكسى، كما هى عادته، وتنقل بينهم وليس يعرفه أحد، وجلس بروحه قليلا بين الناس، يتلمس ملامح ذاته، ويغتسل من عزلته التى فرضها على نفسه أو فُرِضت عليه، وتساءل كثيرًا: هل نحن نعيش حقًّا بين الناس، أم أن هنالك كِبرًا خفيًّا أقنعنا بتلك الزيارات العَجْلَى إلى تلك الأماكن المنهكة بناسها وجدرانها، لنُطْعِمَ جائعًا أو نسد حاجةً "مؤقتة" لفقير، ثم نظن أنْ قد فعلنا ما علينا؟! بل هل عاشت الدعوة بين هؤلاء الناس، وجالستْ تلك العقولَ وصبرتْ- قليلا! - على معاناة ما يعيشون فيه دائما؟! نقابل معارفنا، ونجلس إلى مَن يُقاسمنا بطاقة النادي، أو من كُتِبَ له تَوقيع القَبول وحظِى بختم الانتماء إلينا، ولا نفكر يومًا فى أولئك الذين يقاسموننا الحياة ولا يعرفوننا إلا بآذانهم، ونقنع أنفسنا أننا قد قمنا ببيان الحق! وهل وصلنا أولئك الذين يعيشون ضَنك الإهمال، والفقر والجهل، أم أننا لم نزل نُقْنِع أنفسنا دومًا أننا بخير، فحقيبة رمضان الذى مضى تشهد لنا! الذى أعلمه عن أعظم البشر صلى الله عليه وسلم أنه كان يأكل الطعام، ويمشى فى الأسواق، ويجالس الفقراء، ويتفقد الصغير والكبير، ويقبل الدعوة من فقير ولو إلى "إهالةٍ سنخة": (أى دسَم متغيِّر الرائحة لفقر صاحبه)! يجوع معهم، ويطْعَم معهم، ويصعد الصفا داعيًا بالحق، ويعرضُ نفسَه على القبائل، ويجلس إلى أصحابه غنيِّهم وفقيرِهم لا يمتاز عنهم بشيء فى مطعمٍ أو ملبس، حتى إن الأعرابى ليأتى ليسأل النبى صلى الله عليه وسلم، فلا يعرفه من الناس، لأنه لا يتعالى عليهم فى شيء من أمر الدنيا! بل جاءه الأمر الإلهى بأن يصحب أولئك الفقراء، وأن يجلس إليهم، وأن يكون معهم، غيرَ ملتفتٍ إلى مقترح المشركين بطرد أولئك المساكين الفقراء الذين لا يليق لسادة قريش أن يجالسوهم! فجاءت الحقيقة الإلهية لتعصف بهذا الشرط المتكبر، مبينةً للناس جميعًا أن أحد أركان عظمة هذا النبى الجليل أنه مع الحق وأهله ولو كانوا فى قعر الفقر: "واصبر نفسَك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطًا"! وعلى هذا كان أصحابه رضى الله عنهم، وفيهم الأشراف والسادة والأثرياء كأبى بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم رضى الله عنهم أجمعين، الذين لم يتلبسوا بمالهم، ولا بمنزلتهم عند الله، ولم يكونوا من الذين نراهم يخاطبون الناس من وراء حُجُب الأنفة والاستعلاء! كانوا بين الناس، يتفقَّدون دينهم ومعاشهم وما تقوم به مصالحهم من أمر الدين والدنيا، ولم يصنعوا لأنفسهم "جيتو" يعزلون فيهم أنفسَهم، حتى إذا أطلُّوا على الناس أطلوا تلك الإطلالة الأسبوعية أو التلفازية!