من أسباب النصر شعور الناس بقيمة العدل التي أسهمت في جعل روح جديدة تسري في كيان الشعب المسلم تحت قيادة السلطان قطز، من خلال الفتاوى الفذة التي أفتى بها الشيخ العز بن عبد السلام، الذي أيقظ العدل في قلوب الملوك ليتحقق النصر الشيخ العلامة عز الدين أبو محمد السلمي الدمشقي ثم المصري والمعروف بالشيخ "العز بن عبد السلام"، هو الرجل الذي أيقظ الأمة بقوته في الحق وبآرائه المستنيرة وحد الأمة، فالشيخ العز "سلطان العلماء" لم يخش في الحق لومة لائم. أقبل الشيخ العز على العلم، فكان أعلم أهل زمانه ومن أعبد خلق الله تعالى، وقصد العز العلماء، وجلس في حلقاتهم، ينهل من علومهم، ويكب على الدراسة والفهم والاستيعاب، فاجتاز العلوم في مدة يسيرة. جمع الشيخ العز بين العلم والأخلاق والسلوك والعمل، وكان له ثبات على الحق، سلطان العلماء كانت له مواقف تنويرية جريئة أيقظ فيها ضمير الأمة، ومن هذه المواقف العجيبة، موقفه مع الملك الصالح إسماعيل، فعندما كان الشيخ العز في دمشق كان الحاكم "الملك الصالح إسماعيل" من بني أيوب، فولى الشيخ الجامع الأموي، وبعد فترة قام الملك الصالح بالتحالف مع الصليبيين، فحالفهم وسلّم لهم بعض الحصون، وبعض الحصون، وبعض المدن وذلك من أجل أن يستعين بهم على قتال الملك الصالح أيوب في مصر. فلما رأى العز هذا الموقف الخائن، لم يصبر فصعد على المنبر، وتكلّم فأنكر على الصالح إسماعيل تحالفه مع الصليبيين، وقالها له صريحة، وقطع الدعاء له في الخطبة، بعدما كان اعتاد أن يدعو له، وختم الخطبة بقوله: "اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا تُعزُ فيه وليك، وتذل فيه عدوك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر" ثم نزل. وعرف الأمير الملك الصالح أنه يريده، فغضب عليه غضبًا شديدًا، وأمر بإبعاده عن الخطابة، وسجنه، وبعدما حصل الهرج والمرج، واضطرب أمر الناس، أخرجه من السجن ومنعه من الخطبة بعد ذلك. وخرج العز من دمشق مغضبًا إلى جهة بيت المقدس، وصادف أن خرج الملك الصالح إسماعيل إلى تلك الجهة أيضًا والتقى أمراء الصليبيين قريبًا من بيت المقدس، فأرسل رجلًا من بطانته وقال له: اذهب إلى العز بن عبد السلام، ولاينه بالكلام الحسن، واطلب منه أن يأتي إلىّ، ويعتذر مني، ويعود إلى ما كان عليه، فذهب الرجل إلى العز، وقال له: ليس بينك وبين أن تعود إلى منصبك وأعمالك وزيادة على ما كنت عليه، إلا أن تأتي وتُقبل يد السلطان لا غير. فضحك العز ضحكة الساخر وقال: "يا مسكين، والله ما أرضى أن يُقبل الملك الصالح إسماعيل يدي فضلًا عن أن أُقَبّل يده، يا قومُ أنا في واد، وأنتم في واد آخر، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به". قال: إذًا نسجنك، فقال: "افعلوا ما بدا لكم". فأخذوه وسجنوه في خيمة، فكان يقرأ فيها القرآن ويتعبد ويذكر الله تعالى، وفي إحدى المرات كان الملك الصالح إسماعيل قد عقد اجتماعًا مع بعض زعماء الصليبيين، كان اجتماعهم قريبًا من العز، بحيث يسمعون قراءته للقرآن، فقال: هل تسمعون هذا الذي يقرأ؟ قالوا: نعم، فقال متفاخرًا: هذا هو أكبر قساوسة المسلمين سجناه؛ لأنه اعترض علينا في محالفتنا لكم، وتسليمنا لكم بعض الحصون والقلاع، واتفاقنا معكم على قتال المصريين. فقال له ملوك الصليبيين: والله لو كان هذا القسيس، رجلًا بهذا الإخلاص للأمة وبهذه القوة، وبهذه الشجاعة عندنا لكنا نغسل رجليه، ولشربنا الماء الذي غسلنا به رجليه، فأصيب الملك إسماعيل بالخيبة والذل، وكانت هذه بداية هزيمته وفشله، وجاءت جنود المصريين، وانتصرت عليه وعلى من كانوا متحالفين معه من الصليبيين، وأفرجت عن الإمام العز بن عبد السلام. وكان في مجلس السلطان كبار العلماء والفقهاء والقضاة، فكان الرأي ما ذهب إليه ابن عبد السلام حيث قال: "إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على الإمام قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا مالكم من الحوائص المذهبة، والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوب وسلاحه ويتساوون هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقائه في أيدي الجند من الأموال والآلآت الفاخرة فلا"، كما جاء في النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ابن تغري. وكانت النتيجة باهرة، فقد نفذ الملك والأمراء والجند فتوى العز وامتثلوا لأمره، وأحضر الأمراء كل ما يملكون من مال وحلي نسائهم، وأقسم كل واحد منهم أنه لا يملك شيئًا في الباطن، ولما جمعت هذه الأموال وضربت سكت ونقدًا وأنفقت في تجهيز الجيش، ولم تكفِ هذه الأموال نفقة الجيش، وأخذ السلطان قطز دينارًا واحدًا من كل رجل قادر في مصر، فجمع بذلك الأسلوب الفريد المال الحلال الذي لا ظلم ولا عدوان فيه، ومع الاستعداد النفسي الذي قام به العز وإخوانه من العلماء، تنزَّل نصر الله على عباده المؤمنين، وهزم الله التتار في عين جالوت سنة 658هجرية- جاء في فتاوى شيخ الإسلام العز بن عبد السلام. ومن أسباب النصر شعور الناس بقيمة العدل التي أسهمت في جعل روح جديدة تسري في كيان الشعب المسلم تحت قيادة السلطان قطز، من خلال الفتاوى الفذة التي أفتى بها الشيخ العز بن عبد السلام، الذي أيقظ العدل في قلوب الملوك ليتحقق النصر، وهكذا كانت مواقف العز بن عبدالسلام من حكام عصره، كلها أمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، صادعًا بالحق، حربًا على الباطل وأهله.