أقسم بالله أن فقر الفكر أشد بؤسا وخطرا من فقر المادة.. هكذا صرخت غاضبا في وجه أصدقائي، خلال نقاش على المقهى، بمناسبة اليوم العالمى للفقر الأسبوع الفائت. دخل السِّجَالُ نفقا كئيبا قاتمًا، فقررت توجيه دفة الحديث إلى الحشيش لعلَّنا ننسى، ولكن عبر قضية جادة، أثارها صديق أزهرى كان يدافع عن قرارات وزارة الأوقاف. سيطرت على المايك، وقلت إن أكثر من قرار لوزارة الأوقاف كان هدفا لسياط النقد الموجِع.. بيد أن ما ينبغى قوله إن القرارات كوم ومستوى العديد من خطباء الأوقاف كوم آخر.. دعونى أعرض لمثال أضرب به عصفورين بحجر حشيش.. العصفور الأول نوع من القرارات المثيرة لوزارة الأوقاف، والعصفور الثانى مستوى الخطباء. القرار هو توحيد خطبة الجمعة، الذي اتفق السواد الأعظم أنه قرار جانبه الصواب، لأنه لا يستقيم ومنطق تباين الأوضاع والظروف وتنوع المشكلات من محافظة إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى ومن قرية إلى أخرى بل ومن حى إلى حى آخر مجاور.. الأمر الذي يفرض على الخطيب تناول مشكلة المكان الذي يلقى فيه خطبة الجمعة. على سبيل المثال لو أن الوزارة قررت توحيد الخطبة عن «الاحتباس الحرارى وعلاقته بالوسواس الخناس»، في الوقت الذي تعانى فيه بلدة ما، من انتشار تجارة وتعاطى المخدرات، فهل يعقَل أن ينفخ الخطيب عروق رقبته ويتحدث عن الاحتباس الحراري، ويترك الحشيش ينهش عقول الشباب ويدمر البلدة؟! أما العصفور الثانى الذي أصبته، فهو مستوى الخطباء.. ذات ليلة ضبطت أحدهم وأعرفه جيدا على مقهى مشبوه يلعب «الدومينو» على فلوس، على قارعة الطريق ومبسم الشيشة لا يفارق فمه، وقد سقط عنه قفطان الاحترام الواجب للإمام والخطيب، أزهريا كان أو تابعا للأوقاف. لا أستبعد على مثل هذا الزبون طالما جاء ذكر الحشيش أن تصله تعليمات بأن الخطبة الموحدة عن احتمال قيام الحكومة بالسير على خُطَى هولندا، وتوزع الحشيش بالحصة على البطاقات، مع مراعاة توجيه الشكر للحكومة الحنيّنة، فيقف ذلك الإمام على المنبر ليقول: نشكر الحكومة التي جعلت الحشيش مزاجا.. للمنسجمين عمادا.. وجعلت له المعسل التفاح خَيْرَ قوت.. والنارُ من حولِهِ كالياقوت.. أما فَحْم.. فقد قال السيد شمعة.. وقد سالت على خَدِّهِ الدمعة.. من حَشَّشَ وحدَهُ فليس مِنَّا.. ومن حشَّش جماعة، دخل البرلمان وفى يده اليمنى جوزة من فضة.. وفى اليسرى ماشة من ذهب.. وسبحان من وهب. بيد أننا اتفقنا أن الخلل والانحطاط الفكرى والثقافى قد ضرب جيلا كاملا، ولا فرق بين خريجى الأزهر وخريجى التعليم المنفتح.. ركز قليلا وسوف تكتشف بلا جهد كما يقول المصريون إن الطينة من الطينة واللتَّة من العجينة. شاب خريج جامعة، استمع بالصدفة إلى الست العظيمة ام كلثوم في رائعتها نهج البردة لأمير الشعراء أحمد بك شوقى ولحن العبقرى رياض السنباطي.. كانت الست قد وصلت إلى بيت رائع تقول فيه: يالائمى في هواه والهوى قَدَرٌ / لو شَفَّكَ الوَجْدُ لم تعذِل ولم تلمِ.. وإذا بالشاب المعطوب يقول شفتوا أم كلثوم بتقول كلام إباحة إزاي؟.. ماتعيبوش علينا بقى.. شاب مشموم آخر انصَت إلى «سَلُوا كؤوسَ الطِّلَى»، وهى أيضا لأحمد بك شوقى ولحن السنباطي، واستمع إلى البيت الذي تقول فيه الست: «حمامةُ الاَيْكِ مَن بالشَّجْوِ طارَحَها».. فانتفض رافعا علامة النصر وهو يقول: أهو.. في قلة أدب بعد كده؟!