في عام 2281 أى قبل الميلاد، قبل 4294 عاماً من الآن, خرج أجدادنا المصريون القدماء إلى ميادين مصر فى ثورة شعبية عارمة أتت علي الأخضر واليابس، وسميت ثورة "الرعاع أو الجياع"، منددين بحكم الملك الضعيف "بيبى الثانى" آخر ملوك الأسرة السادسة، وهم يرفعون شعاراتهم "تسقط المحاكم.. تسقط المعابد.. الأرض لمن يزرعها.. الحرفة لمن يحترفها.. الكل سواء.." تعد ثورة "الجياع" فى عهد بيبىهى أول ثورة اجتماعية يخرج فيها المصريون على حاكمهم الذى يعتبرونه حلقة الوصل بينهم وبين الإله, وكانت فى آخر عصر بناة الأهرام أو ما يطلق عليه نهاية الدولة القديمة، فقد استمر حكم الملك بيبى الثانى أكثر من أربعة وتسعين عاما، منذ جلوسه على العرش وعمره 6 سنوات، وحينما وصلت حالة مصر إلى الحضيض فى أواخر أيام الأسرة السادسة، وعمت الفوضى وطفح الكيل, لم يجد الشعب أمامه سوى الثورة على تلك الأوضاع والانتقام ممن كانوا عليه سوط عذاب. الدكتور محمد بكر- رئيس هيئة الآثار الأسبق- يروى كيف ثار الفلاح المصرى المطيع وانتقم من حكامه, بعد أن ألهبت ظهره الضرائب، وقل قوت يومه وأصبح يعانى شدة الفقر هو أبناؤه. ويقول بكر: فى عهد الملك "بيبى الثانى" حدثت ثورة شعبية اجتماعية عارمة, البعض يطلق عليها "ثورة الجياع"، خرجبت فيها أعداد كبيرة جدا من الشعب المصرى، وكانت فى معظم الاقاليم المصرية، وكان من أهم أسباب تلك الثورة أن عصر بناة الأهرام كان طويل المدة، حيث انتهى بحكم الأسرة السادسة، الذى امتد حكم آخر ملوكها الملك "بيبى الثانى" أكثر من 94عاما، بالإضافة إلي الفساد الإدارى الذى كان متفشيا فى مؤسسات الدولة, وأيضا الصراعات والمؤامرات التى كانت دائرة داخل القصر الملكى، وفى الوقت نفسه ازداد نفوذ حكام الاقاليم الذين أصبح كل منهم أميرا حاكما فى مقاطعته, لا يكاد يربطه بالعرش إلا خيط واهن من الولاء، وأدي ذلك إلى تفكيك السلطة المركزية، كل هذا إلى جانب سوء الأوضاع الاقتصادية فى مصر، وذلك نتيجة تأخر فيضان نهر النيل لفترات طويلة، مما سبب مجاعات لا طاقة للناس بها، بالإضافة إلى اشتداد المظالم، وعندما فاض الكيل شبت ثورة عاتية فى البلاد، على العرش والحكام والآلهة. ويحكى الدكتور بكر ما ذكره الحكماء المصريون- الذين عاشوا أثناء ثورة الجياع أو الذين كتبوا عنها - من خلال برديتين إحداهما تسمى بردية "إيبور ور" والثانية"نفرتى" فقد وصف الحكماء حال البلاد التى انقلبت إلى عصابات، حيث لم يعد الناس يحرثون حقولهم، وأضرب الناس عن دفع الضرائب، وتوقفت التجارة الخارجية، كما هجم الناس على مخازن الحكومة فنهبوها وعلى مكاتب الدولة فبعثروا محتوياتها، كما اعتدوا على الملوك المدفونين وبعثروا أشلاءهم ونهبوا كل ما فى قبورهم من أموال وذهب وفضة وغيره، أيضا صب الشعب انتقامه على الأغنياء فنهبوا القصور وأحرقوها، وأصبح أولاد الأغنياء يتسولون فى الشوارع، وبينما كان عامة الشعب يحتفلون بانتصاراتهم، انتشر قطاع الطرق فى كل مكان، ولم يستطع الإنسان أن يأمن على حياته، وأصبح الذين لم يملكوا شيئا فى حياتهم يرفلون فى ثياب من خير أنواع الكتان، وارتدت نساء قطاع الطرق أثمن الثياب وأغلاها، حيث سخر كاتب البردية من تلك الحال, فكتب يقول " إن الأصلع الذى لم يكن يستخدم الزيت أصبح يملك الأوانى المملوءة بخير أنواع العطور، وأن الذى لم يمتلك صندوقا صغيرا فى حياته أصبح مالكا لصندوق كبير، والفتاة التى كانت تذهب إلى الماء لترى وجهها أصبحت مالكة لمرآة". ويستطرد الدكتور بكر قائلا: ومما زاد الوضع سوءا أن عصابات من البدو الذين كانوا يسكنون على حدود مصر فى الشرق وربما أيضا فى الغرب، انتهزوا هذه الفرصة وأصبحوا يتدفقون على قرى الدلتا وينهبون كل ما يجدونه مع الناس، ولم يعد أخ يثق فى أخيه أو صديقه أو صاحبه. وقد وصف مؤرخ المصريات الشهير جيمس هنري برستد فى كتابه "تاريخ مصر من أقدم العصور إلى العصر الفارسي" حال المصريين أثناء ثورة الجياع بقوله : ان الناس قد جاعت وماتت من الجوع... ولأنهم كانوا عاجزين عن دفن موتاهم فقد نشطت صناعة الدفن.. والعاجزون عن الدفن كانوا يلقون الجثث في النيل حتى اصبحت التماسيح ضخمة بسبب هذه الجثث.. ولم يعد يستورد خشب الارز من لبنان لصناعة التوابيت.. وهجم الناس على قبور الملوك.. وهجموا على طعام الخنازير فلم يعد احد يجد طعاما.. وانقلبت الاوضاع في المجتمع.. ولم يعد احد يضحك.. وحتى الأمهات لم يعدن ينجبن.. والمرأة التي كانت ترتدي الكتان تمشي ممزقة.. والتي كانت تملك المرايا لم تعد ترى وجهها الا على سطح الماء.. ولم يعد احد يخاف من رجال الأمن ولا النبلاء ولا الكهنة ولا الاسر المالكة، فكلها لم يعد لها وجود. ولم تكن "ثورة الجياع" التى انهت عصر الأسرة السادسة هى آخر ثورات المصريين القدماء، ففى العام التاسع والعشرين من حكم رمسيس الثالث خرج المصريون مرة ثانية، كما خرج أجدادهم من قبل فى ثورة شعبية عارمة، وكان أبطال الثورة هم "عمال دير المدينة" وقد قامت ثورتهم بعد ان انخرط الملك رمسيس الثالث في أواخر أيامه في الملذات, وكان من جراء ذلك ارتفاع الاسعار وتدهور الحالة الاقتصادية للبلاد وتأخر صرف اجور العمال في دير المدينة لمدة شهرين, مما تسبب في أول إضراب في نهاية حكمه, فقد توقف العمال عن العمل وتوجهوا الي الوزير "تا" المقيم بمعبد "الرامسيوم" ورفعوا إليه شكواهم ولكن دون جدوي، وفي اليوم الثاني تجمع العمال وهاجموا مخازن "الرامسيوم" وهم يصيحون : جائعون وبعدها اضطر الوزير للتدخل لاعطائهم ما يستحقونه. وتروي بردية "هاريس" عن حالة مصر في نهاية الاسرة ال19 فتقول في "ص 59": لقد غُزيت مصر من الخارج وأقصي كل رجل حقه, وظل الناس من دون رئيس سنين عديدة حتي أتي عليهم حين من الدهر كانت مصر في ايدي أمراء وحكام المدن, وذبح الرجل جاره "عظيما كان او حقيرا"..وهكذا انتهى حكم الملك رمسيس الثالث. وعن ثورة المصريين فى عهد رمسيس الثالث، يقول بكر: هذه الثورة كان وقودها "عمال البناء أو الجبانة" الذين كانوا يعملون فى منطقة البر الغربى بطيبة، حيث كانت مركز الحكم والإمبراطورية فى ذلك الوقت, وكان عددهم كبيرا للغاية، وكانت الإنشاءات كثيرة جدا، وتتم فى تلك الفترة بشكل مستمر وسنوي حيث أغدق عليها الأموال الطائلة، وأهملت الدولة إعطاء العمال مستحقاتهم المالية أكثر من مرة, فثار العمال من منطقة عملهم داخل المقابر الملكية، وصاحوا بأنهم جائعون، ثم قاموا بالهجوم على المعابد الكبرى مثل معبد الرمسيوم، ومعبد رمسيس الثانى، وذلك لما فيها من ثراء وذهب، حيث كانت للمعابد الهبات من أوقاف وأراض وأموال، والمأخوذة من مخصصات القصور الملكية، كما هجموا على مخازن الغلال والتموين والأموال . أضاف بكر أن إضراب العمال لم يكن السبب الوحيد فى قيام الثورة وانتشار الفوضى فى البلاد، فبعد أن تولى الأجانب وظائف الدولة العامة وخاصة فى البلاط الملكى، وأصبحوا أمناء للملك رمسيس الثالث, الذى استمع إلى نصائحهم، مما زاد من الأزمة الاقتصادية والتى سببت ارتفاعا كبيرا فى أسعار الحبوب الغذائية بصورة لم يكن للشعب عهد بها من قبل، فقد كان الفقراء المصريون يموتون جوعا بينما تكدست الحبوب والغلال وأكوام الذهب فى مخازن أمون، مما زاد حنق الشعب وصاروا يهجمون وينهبون كل مكان فى الدولة أثناء ثورتهم الغاضبة . وكانت هذه الثورة هى البداية الأولى، لخضوع مصر تحت الحكم الأجنبى، فقد حدثت العديد من المؤامرات داخل القصر الملكى كان هدفها قتل الملك رمسيس الثالث والتخلص منه، والتى دبرتها إحدى زوجاته لتدفع بابنها (بنتاؤور) وليا للعهد، وأطلق على هذه المؤامرة، مؤامرة "الحريم" ،وانتهت عظمة مصر بنهاية إمبراطورية أعظم الملوك بقتل رمسيس الثالث فى عام 1160 ق.م. الهوامش: كتاب مصر الفرعونية للمؤلف أحمد فخرى