في ورشته الصغيرة بشارع المعز، اعتاد أن يجلس على مقعده المتهالك بفعل سنوات الزمن.. يمسك، وإن شئت الدقة تقول يحتضن، بين يديه «قلم حديدي».. وفى اليد الأخرى تتأرجح بين الأصابع مطرقة صغيرة، وتحت القلم والمطرقة ترقد في سلام قطعة نحاس.. قطعة عادية كانت حتى قذفتها الأقدار لتكون أمامه، فما هي إلا ساعات قليلة تمر.. ينصهر فيها جسده مع آلاته البسيطة، وتتحول القطعة العادية ل"لوحة فنية" ترقص فوق سطحها اللامع المتألق أشعة الشمس، كاشفة عن "لوحة فنية". عم محمود حافظ.. الرجل السبعيني، الذي لم تجبره آلام ظهره من كثرة الانحناء ل"النحاس"، على أن يخرج "معاش"، ويعلن تخليه عن عشقه.. سنوات عمره الطويلة أفنى معظمها مأخوذا بفكرة النقش على النحاس، ينفخ فيه من روحه فإذا به يتحول إلى لوحات فنية بديعة تفتن العيون بسحر أبيض يشفي الروح ويسمو بالنفس. عم محمود.. أُمي لا يعرف القراءة والكتابة، لكن الأمر لم يكن ذا أهمية له ف"الموهبة" لا تحتاج لأبجدية كى تترجم على اللوحات.. الموهبة تمتلك أبجديتها الخاصة.. كلماته التي لا يجيد استخدامها "إلا من رحم ربي"، وأحرف ينطبق بها القلب ولا تحتاج للسان.. فقلبه يأمر أنامله لتتحول القطعة العادية إلى نقوش أقل ما توصف به "الجمال بذاته". يعتبر نفسه حارسا لمهنة تصارع للبقاء حية أمام مفردات عصر أعمدته المال، الآلات، والسرعة، فلا شيء ينقذها سوى التفرد ولا شيء يزكيها سوى الأصالة.