عندما فكر الخديو إسماعيل فى إنشاء دار للأوبرا، اختار لها ميدان العتبة الخضراء، أمام تمثال جده إبراهيم باشا، وقد عهد للمهندس الفرنسى هوسمان بتخطيط الميدان، وأكمل المهندس الإيطالى متاتيا تخطيط الميدان بإنشاء حديقة الأزبكية التى كانت إحدى أهم الحدائق فى مصر والعالم بما تحويه من نباتات نادرة وتخطيط جميل، وفى ميدان العتبة كانت هناك قطعة أرض فضاء.. كان المهندس متاتيا قد أقام بها خيمة كبيرة للسيرك الأوروبى، أثناء احتفالات مصر بافتتاح قناة السويس (كانت هذه الأرض مكان جراج العتبة متعدد الطوابق الآن) وبعد سفر السيرك فكر متاتيا فى إقامة عمارة كبيرة على نفس قطعة الأرض لتطل على ميدان العتبة من جهة، وعلى حديقة الأزبكية من الجهة الأخرى، وأصبحت هذه العمارة من أشهر عمارات وسط القاهرة، وعرفت باسم عمارة متاتيا. أسفل العمارة أقيم مقهى كبير اشتق اسمه من اسم العمارة حيث ظهر للوجود مقهى متاتيا أشهر مقاهى القاهرة فى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. كانت مصر فى هذا الوقت من أواخر القرن التاسع عشر فى طريقها نحو النهضة الحديثة، وكانت البعثات التى أرسلها محمد على باشا ومن بعده الخديو إسماعيل قد أتت ثمارها، وزاد عدد المتعلمين والمثقفين فى مصر، وزاد عدد الجرائد، واستقبلت مصر فى ذلك الوقت رواد الحضارة الحديثة من كل بقاع الدول العربية، خاصة من الشام، كما كانت مصر على موعد مع المفكر والرائد جمال الدين الأفغانى، الذى اختار مقهى متاتيا لندوته الأسبوعية ، التى حضرها رموز مصر فى ذلك الوقت، كان الأفغانى شخصية ساخرة وكان يجلس على قهوة (متاتيا) ، وكان الأفغانى فيلسوفا للثورة على التقاليد، وعلى هذه القهوة بدأت إرهاصات الثورة العرابية, فقد كان أحمد عرابى وعبدالله النديم والشيخ محمد عبده من تلاميذ الأفغانى، وكانوا يحضرون ندوته على متاتيا, أضف لهؤلاء سعد باشا زغلول والذى شارك أيضا فى الثورة العرابية ودخل السجن بسببها، وكانت الشعارات الثورية التى يطلقها الأفغانى مقلقة للسلطة الخديوية والعثمانية، فتم نفى الأفغانى من مصر، واستمرت القهوة بعد ذلك ملتقى الكتاب والمثقفين، فكما جاء إليها الأفغانى جاء أيضا المفكر الكبير عبدالرحمن الكواكبى، وكانت متاتيا مقصده كل ليلة يسهر فيها وسط النقاشات الحامية، وبعد أن وضع كتاب "طبائع الاستبداد" والذى تناول فيه طرق الاستبداد السياسية، وأشكال الحكم الديكتاتورى ، وضعت له أياد خفية السم فى الطعام ،وعلى مقهى متاتيا كانت نهايته حيث حمله أصدقاؤه إلى بيته بعد الآلام المبرحة التى شعر بها فى بطنه، وما لبث أن توفى ، و لم يعرف حتى الآن من دس له السم. ومن رواد المقهى فى ذلك الوقت إبراهيم الهلباوى -أشهر محامى فى مصر آنذاك وأول نقيب للمحامين عام 1912-وكان الهلباوى من تلاميذ الأفغانى، وشارك فى الثورة العرابية ودافع عن عرابى وصحبه كما ترافع فى كل القضايا الوطنية حتى وفاته عام 1940، إلا أنه سقطة واحدة كانت سببا فى اعتزال الهلباوى المقهى ورواده عام 1906 وهى مشاركته كمدع عام فى محاكمة دنشواى، وعلى الرغم من أن الرجل ظل طوال سنوات عمره يكفر عن هذا الخطأ إلا أن التاريخ لايزال يذكر له موقفه من الفلاحين البسطاء الذين تم إعدامهم فى دنشواى. المحامي إبراهيم اللقاني بك وعبدالسلام المويلحي والشاعر حافظ إبراهيم والشيخ عبدالعزيز البشري وإبراهيم عبدالقادر المازني وعباس محمود العقاد وأحمد زكى باشا كانوا من رواد المقهي أيضا وكان النقاش يحتدم بينهم خاصة فى المسائل الأدبية وما يستجد فيها. أيضا كانت ملتقى الجالية المغربية ، والتى كانت تعرف برواق المغاربة نسبة إلى رواقهم فى الأزهر الشريف، وكان معظمهم يدرسون فى الأزهر الشريف، كما كان من رواد المقهي الحبيب بورقيبة المناضل التونسى إبان إقامته فى مصر، ووجود المقهي فى ميدان العتبة الذى كان ملتقى كل خطوط الترام منذ إنشائه عام 1896 تأثيره حيث كان جميع رواد الترام يمرون أمام المقهي كل يوم، كما شهد المقهي ثورات مصر بداية من ثورة عرابى ثم ثورة 1919 وكان وقتها منبرا للخطباء وتجمعا للوطنيين وسقط العديد من الشهداء على أبوابها. كما شهد المقهى ثورة 1935 وتوقيع وإلغاء معاهدة 1936 وهدم مبنى المحاكم المختلطة المجاور للمقهى فى نفس العام، وكانت هذه المحاكم وصمة عار فى جبين مصر كلها منذ إنشائها بعد الاحتلال الإنجليزى لمصر. وكانت ثورة 23 يوليو 1952 آخر الثورات التى شهدها المقهى قبل تحوله إلى محلات تجارية عام 1960، وجاء زلزال 1992 ليكمل على البقية الباقية من العمارة لتأتى كلمة النهاية بقرار من محافظ القاهرة بالهدم عام 1999 وبناء جراج متعدد الطوابق مكانه. هذه كانت قصة أشهر مقاهى مصر والتى كانت شاهدة على تاريخها كما كانت ضحية إهمال التراث الثقافى والجمالى لصالح مزيد من العشوائية والقبح!!