يوميات سيدتين مع 60 سنة فقرًا تتبدل المعالم وتتغير الوجوه ويبقى الفقر والتهميش عنوانًا لما يزيد على المليون نسمة يقطن جميعهم واحدة من أكبر المناطق العشوائية في مصر، إنها عزبة خير الله، التي تشكلت أولى لبناتها في سبعينيات القرن الماضي، حين نزح إليها عدد محدود من أبناء الريف الذين قدموا إلى القاهرة بحثًا عن مصدر رزق، وحين فشلوا في إيجاد مأوى لهم وسط العاصمة لجئوا إلى تلك الهضبة الصخرية القريبة من شمال حى المعادي، ليستروا أجسادهم داخل عشش أقاموها، سرعان ما تبدلت إلى بنايات متهالكة. مليون نسمة «عايشين حياتهم بالعافية»، حسب وصف أهالي عزبة خير الله، للسبل التي يتحصلون بها على الخدمات الأساسية، فمنازلهم مضاءة بتيار كهربائى مسروق من الأعمدة المضروبة على جانبى الطريق الدائرى الذي يقسم العزبة إلى نصفين، ونفس الأمر ينطبق على مياه الشرب، أما الصرف الصحى فالأهالي لجأوا إلى حفر "بيارات" مجمعة للتخلص من نفاياتهم. حياة الفقر والحرمان التي يعيشها الأهالي هناك، تؤكد أن محدودى الدخل في حسابات الحكومات المتعاقبة «مجرد رقم» لا يعبئون بوضعه في خطط التنمية، وكل كلام من قبيل الاهتمام بمحدودى الدخل، ومنحهم كل سبل الرعاية، وتوفير الحياة الكريمة لهم.. مجرد تصريحات ووعود جاهزة عند وقوع الكوارث والأزمات، وسريعًا ما تذهب أدراج الرياح بمجرد بزوغ شمس يوم جديد. سيد إسماعيل..«دفتر أحوال» الحرمان والتهميش بوجه يعلوه الوقار، وعمر تجاوز الثالثة والستين ربيعًا، يقف الشيخ سيد إسماعيل، إمام مسجد عزبة خير الله، على مدخل العزبة مداعبًا الزوار - الذين يعرفهم من أول نظرة - بجملته التي يحفظها الجميع هناك: «أنا أقدم واحد في العزبة وكبير الأهالي هنا وإمام المسجد، وكل اللى عايز يعرف حاجة عن التاريخ يسألني». أهالي العزبة يثقون فيه لأبعد الحدود ويقدمونه للتحدث باسمهم في كل الأمور، فهو شاهد عيان على سنوات الحرمان والتهميش التي عصفت بهم، لذلك يصفونه ب «دفتر أحوال العزبة»، فهو واحد من ضمن عشرة - ما زالوا على قيد الحياة - عاصروا لحظات بناء أول عشة في هذا المكان، التي يسردها الشيخ سيد، بقوله: «أبويا كان من أول الناس اللى سكنت في المكان ده.. أنا لسه فاكر إننا جينا هنا في سنة 1971، وبنينا عشة قعدنا فيها وبعد كده جت أسر كتير من أبناء الأقاليم اللى بيدوروا على شغل وما عندهمش سكن في القاهرة، وبمرور الزمن أتحولت العشش لبيوت من الحجارة اللى كنا بنجمعها من الهضبة اللى في آخر العزبة.. في الأول كانت كل الأهالي تعرف بعضها بالاسم.. كنا قليلين ما نزدش على 5 آلاف شخص، أما دلوقتى فالعزبة فيها مليون بنى آدم ويمكن أكتر». الشيخ سيد، يعتبر نفسه أنه أدى رسالته في الحياة على أكمل وجه، ويتفاخر بأنه علم 17 ألفًا من أبناء العزبة القراءة والكتابة، إضافة إلى نجاحه في تحفيظ القرآن الكريم ل 220 طفلًا، وقاد مئات المجالس العرفية التي أنهت خصومات ملتهبة بين الأهالي، ولم يبق له سوى مهمة واحدة يتمنى إنجازها قبل أن موته، وهى: «توصيل المرافق والخدمات الأساسية للعزبة، وإلغاء قرار الإزالة الذي أصدرته محافظة القاهرة، وتنوى من خلاله هدم كل المنازل وتوطين الأهالي في مكان آخر». كما يرى أن الحل الأمثل للقضاء على عشوائية عزبة خير الله، يتمثل في اعتراف الحكومة بحق أهلها في الحياة، وتطوير العزبة دون الحاجة إلى تهجير الأهالي. «أم سعيد» و«أم حسين»: «يوم مر.. ويوم أمر» سنوات عمرهما مرت بحلوها ومرها.. تحققت خلالها أمنيات وأحلام وتبخرت أخرى لتصبح مجرد ذكرى وبقايا أطلال مثل تلك الصخور المبعثرة التي تعودتا على الجلوس فوقها «ساعة العصاري»، لسرد قصة قدومهن إلى هذا المكان في سبعينيات القرن الماضى مع عوائلهن، وتبادل أحاديث الشكوى من استمرار مرار العيشة، ومجاملات الاطمئنان على الأحوال.. وهكذا يمضى ما تبقى من حياة «أم سعيد»، و«أم حسين» تلك السيدتين البالغتين من العمر ستين عامًا، بين أمنية وحسرة وذكرى. «أم حسين»، ترى أن الفقر الذي أصاب أسرتها بسبب سياسات الحكومات المتعاقبة منذ حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات وحتى حكومة المهندس شريف إسماعيل، هو السبب في رحيلهم من قريتهم بصعيد مصر والإقامة داخل عزبة خير الله، واصفة تلك السنوات بقولها: «أنا جاية من الصعيد الجواني، وسكنت في المكان ده من 45 سنة؛ كان عمرى ساعتها 15 سنة، ولسه فاكرة يوم ما دخل علينا أبويا وقال لأمي: الحكومة مش معترفة بينا، وحتى المعاش مش عايزين يصرفوه.. العيشة هنا ضيقت وخلاص ما فيش مفر من السفر.. حناخد العيال ونتوكل على الله ونروح مصر، ومن يومها وعزبة خير الله بقت بلدنا اللى منعرفش غيرها بعد ما انقطعت علاقتنا بباقى أهلنا». «أم سعيد»، التقطت أطراف الحديث من صديقة عمرها، مؤكدة أن الحكومة ترفض الاعتراف بأهالي عزبة خير الله، قائلة: «العزبة دى عمرها أكتر من 50 سنة، والناس هنا بتصرخ وما فيش حد راضى يسمعنا، وكل ما نتكلم يقولوا أنتو منطقة عشوائية وبيوتكم مبنية بالمخالفة.. طيب هو إحنا لقينا بيوت غيرها تسترنا ومسكناش.. العزبة هنا كلها مشكلات ما فيش مايه ولا كهرباء ولا صرف صحى ولا مدارس ولا حتى مستشفى واحد ينقذ المرضى.. إحنا تعبنا من كتر الفقر والقلة في كل حاجة، وعمرنا خلص من غير ما نشوف يوم حلو». «أم البنات»:«أحلى من الشرف مفيش» وجه نحيل خط الفقر والحرمان فوقه تجاعيد بمجرد نظرك إليها تعرف ما تكبدته هذه السيدة من شقاء على مدى 52 ربيعًا هي سنوات عمرها.. «وصيفة» إحدى سيدات عزبة خير الله التي وجدت نفسها منذ خمس سنوات دون سند يعينها على أعباء هذه الحياة، فقد رحل زوجها تاركًا لها 6 فتيات وطفلًا. «وصيفة»، اختارت طريق الشرف الذي لا يعرف البسطاء من أبناء هذا الوطن غيره لتدبير نفقات حياتهم البائسة، فتحملت الكثير من المضايقات أثناء طرقها أبواب العزبة - التي يزيد عدد سكانها على المليون نسمة – لتعرض مساعدتها على ربات البيوت في تنظيف المنازل وإعداد الطعام مقابل «أي لقمة» تسد رمق صغارها. سنوات الشقاء مرت ثقيلة على «أم البنات»، إلا أنها استطاعت وبهمة يفتقدها الكثيرون تربية أبنائها الستة. «وصيفة»، توجه صرخة لمسئولى محافظة القاهرة لينقذوها وأفراد أسرتها الثمانية من الموت تحت أنقاض تلك الغرفة التي يقطنون بداخلها، فقد سقطت أجزاء كثيرة من جدرانها وهو ما جعلها آيلة للسقوط فوق رءوسهم في أي لحظة، مؤكدة أنها ذهبت عشرات المرات للمسئولين في حى مصر القديمة ليوفروا لها أي مأوى آخر ولكنهم لم يعطوها أي اهتمام. وعن حاجتها لمصدر دخل ثابت يوفر لها ولأسرتها حياة كريمة، تشير «وصيفة» إلى أن هذا الأمر لا يشغلها كثيرًا، واصفة تكبدها مشاق العمل في هذه السن بقولها: «صحيح الشقا بيتوه بس اللى زينا ما يعرفوش يعنى إيه دلع.. وطول ما في نفس، يبقى أكيد في شقا.. اللى زينا ما يرتاحوش غير لما الموت يدق على بابهم». «حمدى».. الحياة داخل «عشة» فوق حطام منزله الذي سقط منذ ثمانية شهور، وقف «حمدي» ذلك الشاب البالغ من العمر 35 عامًا، بملامح شاخت من كثرة الأسى والحزن الذي يحمله قلبه رغم صغر سنه، يروى لنا مأساة إيواء زوجته وأبنائه الثلاثة داخل عشة نسجت جدائلها من البوص بعد أن تهدم منزله الذي ورثه من والده. «كانت ليلة سودة»، بهذه العبارة بدأ «حمدي»، حديثه معنا، موضحًا أنه كان يقطن وأسرته داخل منزل مكون من غرفتين وحمام، وجميع جدرانه مليئة بالشروخ مثله مثل باقى منازل عزبة خير الله، إلا أنه «كان ساترهم من غدر الزمن» - حسب وصفه - وفى إحدى الليالى استيقظ الجميع على صوت شيء يسقط، واكتشفوا أن المنزل ينهار، وبقيت يا مولاى كما خلقتنى مش معايا أي حاجة حتى بطاقتى وقسيمة جوازي.. كل الأوراق راحت». «جيرانا استضافونا في الليلة دي» - والحديث ل «حمدي»، مشيرًا إلى أنه: «فضلنا نتنقل من بيت لبيت لمدة شهر، ولما اتأكدت إنى مش هقدر أبنى البيت تانى عشان قلة الإمكانيات فكرت إنى أبنى عشة من البوص وقلت أهى حاجة تسترنا وخلاص، ومن ساعتها وإحنا عايشين أنا وعيالى حياة ما يرضاش بيها أي بشر». «حمدي»، يعتمد في توفير نفقات أسرته على بيع الشاى لسائقى سيارات النقل الثقيل التي تمر على الطريق الدائرى المجاور لعزبة خير الله. مطالب «حمدي»، من المسئولين تتلخص في أمنية النظر له بعين الرحمة لانتشاله وأطفاله الصغار من الحياة غير الآدمية التي يعيشها، ويوفروا لهم أي مسكن خارج عزبة خير الله.