قصة انتقال.. «الإذاعة» إلى «المنشأة» إن بيتا يتلى فيه القرآن ليل نهار لهو بيت مبارك، وإن رجالاً لا يشغل قلبهم سوى كلام رب العالمين لهم رجال صالحون، وفى فلاح أكيد.. هكذا هو بيت المنشاوى بصعيد مصر، برجاله صديق السيد تايب المنشاوى، وأبنائه محمد، ومحمود، وأحمد الذين مكنوا لأنفسهم مكاناً عاليا ومرتبة رفيعة فى دولة التلاوة القرآنية. فى عام 8981 ولد الشيخ صديق المنشاوى فى بلدة المنشأة بسوهاج وظهرت عليه علامات النبوغ المبكر، فحفظ القرآن الكريم تلاوة وتجويداً وهو دون العاشرة من عمره، ووهبه الله صوتاً جميلاً، ونبرات ترتاح لها الآذان، وإمكانات عالية. فى ذلك الوقت كانت الفرصة متاحة للشيخ الصغير فى منطقة تدعو القارىء لإحياء الليالى والسهرات لأكثر من ليلة، فبدأ يسهر ليالي رمضان مع شقيقه أحمد التايب الذى كان يحفظ كتاب الله كاملاً، وداخل بيت العائلة سهر الشقيقان يحييان ليالى رمضان، فتوافد أهالى البلدة على محرابهم الذى امتلأ عن آخره بالمستمعين من البشر والملائكة المنصتين لصوت الشيخ الصغير وهو يصدح بآيات الذكر الحكيم طوال الليل. فى سن الخامسة عشر بدأ صيت الشيخ صديق ينتشر فى ربوع الصعيد كله، وفى سن الثالثة والعشرين تزوج وأنجب ابنه الأكبر محمد الذى وهبه للقرآن، وفى عام0391 ولد له ابنه الثانى وسماه «أحمد» ووهبه أيضاً للقرآن، ثم رزق بمولوده الثالث عام 2491 الذى سماه «محمود» ويهبه للقرآن أيضاً. بيت المنشاوى قيمة كبيرة فى نفوس المسلمين، فالأب صديق المنشاوى أول شيخ تذهب إليه الإذاعة المصرية تكريماً له وبحثاً عن موهبته، ولسمعته الطيبة ونفسه العزيزة الزاهدة، ففى شهر رمضان فى بداية الخمسينيات انتقلت إذاعة القرآن الكريم إلى المنشأة لتنقل تلاوة الشيخ صديق على الهواء مباشرة، ويتكرر نفس المشهد مع الشيخ صديق وابنه الشيخ محمد عام 3591 حين انتقلت الإذاعة إلى مدينة إسنا لتنقل تلاوة الشيخين المدعوين لإحياء بعض ليالى شهر رمضان بإسنا، ونقلت الإذاعة تلاويتهما على الهواء دون العرض على لجنة الاختبار لإجازة القراءة. وقد سجلت الإذاعة للشيخ صديق 51 تلاوة كلها حفلات خارجية، ولكن للأسف تم مسح أشرطة التسجيل عن طريق الخطأ، وسجل عليها المسئولون عن مكتبة الإذاعة مجموعة من الأغانى الإذاعية. بخبرة الشيخ صديق فى تلاوة القرآن الكريم، فقد اكتشف فى ابنه محمد موهبة كبيرة وتأكد أنه جوهرة يجب الحفاظ عليها، فأخذه مأخذ التلميذ فعلمه القرآن وحفظه كاملاً وهو دون الحادية عشر، وألبسه زى القراء، ولقبه بالشيخ وهو فى تلك السن الصغير ليعوده على تحمل المسئولية، وعندما بلغ الثانية عشر أراد الوالد أن يطمئن على ابنه فصحبه إلى الشيخ النمكى أحد كبار الحفاظ وقتها، فاختبره الشيخ النمكى فوجد لدى الفتى الصغير نبوغاً وموهبة عظيمة، فأشار على والده أن يذهب به إلى أحد الشيخين محمد سعودى أو الشيخ محمد أبو العلا، فذهب به الشيخ صديق إلى الاثنين معاً فقبلاه تلميذاً وعلماه أحكام التجويد والتلاوة. أتم الشيخ محمد دراسة علوم القرآن وهو ابن السادسة عشرة فصحبه أبوه معه إلى بعض السهرات والمناسبات ليشارك معه لفترات قصيرة لا تتعدى 51دقيقة حتى لا يؤثر ذلك على أحباله الصوتية أو عندما بلغ الثامنة عشرة تركه والده يواجه المستمعين بمفرده ليستقل بشخصيته ويعتمد على نفسه. ما بين سن العشرين والثلاثين من عمره أصبح اسم الشيخ محمد صديق المنشاوى كالطبل فى ربوع المحروسة، وكمان مطلوباً لدى كبار العائلات لإحياء المناسبات الدينية والمآتم، حتى إن بعض المحبين لصوته وأدائه كانوا يؤجلون إقامة العزاء حتى يستطيع الشيخ محمد الحضور. مع عام 3591 بدأت شهرة الشيخ محمد تأخذ اتجاها آخر، ففى رمضان من هذا العام بثت الإذاعة المصرية أول حفل تلاوة له بصحبة والده، منذ ذلك التوقيت وطوال ستة عشر عاما، أنهالت الدعوات على الشيخ محمد صديق من كل دول العالم العربى والإسلامى، على اختلاف أشكالهم وألوانهم وثقافاتهم، وخاصة لإحياء ليالي شهر رمضان المبارك، وكانت فى مجملها دعوات خاصة غير رسمية، وتعتبر ترشيحاً للقارئ واختياراً «للعبقرى الموهوب الذى يحظى بإجماع المستمعين، لم تدم حياة الشيخ محمد صديق طويلاً، حيث توفى عن عمر 94 عاماً ولكنه ترك للمكتبة الإذاعية أكثر من «021» تلاوة مسجلة بصوته فى الفترة من 4591 وحتى عام 9691، ومن هذه التلاوات أكثر من 02 حفلة خارجية تتراوح مددها بين خمس دقائق، وخمس وأربعين دقيقة، وله أكثر من 003 تلاوة يتم تداولها بين محبى صوته الذين يتزايدون رغم رحيله، وما زال المصحف المرتل للشيخ محمد صديق المنشاوى يحقق أعلى المبيعات فى سوق الكاسيت القرآنى وذلك باعتراف المهندس متولى عبدالبصير مهندس صوت بإحدى الشركات التى تقوم بطباعة المصاحف المرتلة، حيث قال «أربعة يتنافسون على أعلى المبيعات وهم الحذيفى والمنشاوى والسديس والشريم، وأكثرهم مبيعاً مصحف الشيخ محمد صديق المنشاوى وخاصة فى مواسم الحج والعمرة ورمضان. جاء أحمد صديق المنشاوى إلى الدنيا بعد مولد أخيه محمد بعشرة أعوام، وعندما بلغ السادسة من عمره كان أخوه فى السادسة عشرة شيخاً معروفاً لأهالى بلدته والبلدان المجاورة، وقتها اطمئن الوالد على مستقبل ابنه محمد فتفرغ لطفله الثانى يعلمه ويرعاه، فقام بتحفيظه القرآن الكريم بالأحكام والتجويد، فسهل عليه الحفظ، وحببه فى القرآن ومكنه من إجادته، ولم يدخر الشيخ محمد جهداً فى معاونة أخيه وتدريبه، التحق الشيخ الصغير أحمد صديق بالتعليم العام مع أنه كان متفوقا فى حفظ القرآن، ولم يستمر فى دراسته بالتربية والتعليم، وسرعان ما توجه وجهة آل البيت المنشاوى بسوهاج ليحاول الفتى الصغير أن يجد لنفسه طريقاً ويحجز مكاناً بين عمالقة القراءة ومشاهير التلاوة القرآنية، ولكن القدر لم يمهله حيث وافته المنية وهو فى العشرين من عمره، وذلك عام 9491م. عند وفاة الشيخ أحمد صديق كان أخوه الأصغر محمود دون السابعة، فاستعاض الأب عن حزنه بفراق ابنه أحمد بالاعتكاف على تربية وتنشئة طفله الأصغر الذى أمل فى أن يكون أحد أركان البيت القرآنى، فكان له ما أراد، حيث أقبل الطفل الصغير على حفظ القرآن بحب وباتقان شديد فأتم حفظه وهو دون الثانية عشرة، أتم حفظ القرآن وهو يتعلم أحكام التلاوة لدى الشيخ عامر عثمان أحد أبرز العلماء المتخصصين فى علوم القرآن وأحكامه آنذاك، والتحق بعده بمعهد القراءات وحصل على شهادة التخصص، فتمكن من أحكام التلاوة، وأصبح مرافقاً لأخيه محمد فى سهراته ليتعود على مواجهة جماهير المستمعين ويتغلب على الرهبة، وليصنع لنفسه اسماً. وقبل أن يبلغ الشيخ محمود السابعة والعشرين من عمره رحل أخوه الشيخ محمد صديق إلى الرفيق الأعلى، وكان رحيل الشيخ محمد البوابة التى دخل منها الشيخ محمود إلى الإذاعة، حيث إن الأب الشيخ صديق لم يجد ما يصبر به نفسه على رحيل ابنه البكر، إلا أن يصعد ابنه الأصغر ليحجز مكان أخيه فى الإذاعة، فاصطحب ابنه الذى لم يكمل الثلاثين عاماً، وذهب به إلى المسئولين بالإذاعة وعلى رأسهم الأستاذ محمد أمين حماد «رئيس الإذاعة الأسبق» وقال له، إن ولدى الشيخ محمود قارئ مجيد ولونه يشبه لون قراءة الراحل الشيخ محمد فاجعلوه عوضاً لى عن أعز فقيد وأغلى شىء فقدته فى حياتى، فاستجابوا لدموع الأب، ولثقتهم فى حكمه على المقرئين اختاروا الشيخ محمود مقرئاً بالإذاعة، وظهر الشيخ محمود عام 9691 وهو نفس العام الذى توفى فيه شقيقه الشيخ محمد بالصوت والصورة فى التليفزيون المصرى فى مناسبة الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج، وقرأ فى ذلك الحفل أول سورة النجم، ومنذ ذلك التاريخ اتخذ الشيخ محمود طريقه ناحية المجد والشهرة، ففى عام0791 وبمناسبة استقبال شهر رجب أرسلت إليه الإذاعة ليكون قارئها بمسجد السيدة زينب رضى الله عنها، فأحيا الحفل بحضور 8 آلاف مصل يتقدمهم كبار المسئولين بالدولة، وفى نفس العام وضع اسمه ضمن فريق القراء بالإذاعة لإحياء ليالى رمضان، انطلق بعد ذلك الشيخ محمود ليجوب دول العالم ويحيى الحفلات الدينية بتلاوته العذبة فى البلدان البعيدة وكانت بعض رحلاته بدعوات خاصة تأتيه من الدول مباشرة، ومعظمها بترشيح من وزارة الأوقاف المصرية كمبعوث للدول العربية والإسلامية وبعض الدول الأجنبية والعربية ليتلوا القرآن داخل المراكز الإسلامية التى تضم مساجد كبرى وتجمع آلاف المسلمين من الجاليات العربية والإسلامية، وأغلب الدعوات كانت تأتيه من دول الشام «سوريا ولبنان وفلسطين» وبعضها من تونس والمغرب والعراق، والأردن بالإضافة إلى الدول الأجنبية حيث زار لندن والولايات المتحدةالأمريكية، وأندونسيا وباكستان والهند وإيران.