إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق والحليم من يملك نفسه عند الغضب لن يكون الفيلم الأمريكى المسيء إلى الرسول الأكرم، هو المشهد الأخير، فى مسلسل الإساءة إليه، من قبل مأجورين أو موتورين، فالقرآن العظيم يقول: "وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ". رأيتُ نفسى مرتبكاً، فلا أنا ثرتُ مع الثائرين، ولا تظاهرت مع المتظاهرين، كما لا يجب أن أكون متخاذلاً فى حق سيد الأنام، وقد أعيتنى السبل، فالذين كانوا يرددون من قبل: "فداك أبى وأمى يا رسول الله"، دخلوا مساكنهم كالنمل..فكرتُ مليا، فلم أجد رجلا رشيدا يدلنى على الطريق، فها هو الرسول الكريم، وكأنى أحاوره فيما حدث ويحدث، وكيف يكون السبيل؟ قلتُ: سلاماً رسول الله، قال: سلاما، قلتُ: ربّاك ربُّك جلّ من ربّاك ورعاك في كنف الهدى وحماك سُبحانه أعطاك فيض فضائل لم يُعطها في العالمين سواك سوّاك في خُلق عظيم وارتقى فيك الجمالُ فجلّ من سوّاك سُبحانه أعطاك خير رسالة في العالمين بها نشرت هُداك سُرّ النبى صلى الله عليه وسلم، مما سمع وقد انبسطت أساريره، ثم قلتُ: جئتك من الدنيا بنبأ يقين، إنى وجدتُ قوما مارقين، يهزأون بك، ويسخرون منك، فاندهش صلى الله عليه وسلم، من قولى، فأردفتُ: قوم غير مسلمين، أنتجوا فيلما مسيئا لمقامكم الرفيع. توقعتُ أن ينتفض النبىُّ الأكرم،من جلسته، ويستدعى «ابن الخطاب»، و«ابن الوليد»، ليناقشهما فى أمر الثأر له، إلا أنه لم يفعل شيئا من هذا، بل زاد على ذلك، بأن ابتسم فى رفق، ثم قام ليتوضأ ويصلى ركعتين، خرج منهما منتشياً مسروراً، فبادرتُه بقولى: أنا فى حيرة من أمرى،هل تقر ما حدث من قتل وتدمير وتفجير، وغضب متدفق بلا حدود، فقاطعنى قائلا: لقد نهيتُكم عن الغضب، «فالحليم من يملك نفسه،عند الغضب»، كما أننى بعثتُ «لأتمم مكارم الأخلاق»، والغضب والانتقام ليسا من شيم الكرام. قلتُ: هذا درسٌ بليغٌ، لم نتعلمه منك حتى الآن،فعقّب: «وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا». قلتُ: إذن ما تقول فيمن غضب وقتل وأحرق، وفيمن لم يبال بالأمر؟ فأومأ إيماءة،فهمت منها أنه لا يقر هذا أو ذاك. تعثر لسانى فى الكلام، لا أدرى لماذا، ثم قلتُ: لم؟ فأجابنى: الله يقول: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، فمن قتل وأحرق، حاد عن الصواب، قلتُ:والفريق الثانى؟ قال: أخطأ،لأنه تخاذل فى الدفاع عنى، وأنا لم أدعُ يوما إلى الهوان والاستسلام، فالله يقول: «إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا». تلبستنى حيرة مؤقتة، خرجتُ منها بسؤال بدا لى مرتبكا وساذجا، وهو: إذن، ما الذى كان ينبغى أن نفعله؟ التفت، صلى الله عليه وسلم إلىّ، ثم تلا قوله تعالى:« قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ، وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا، وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ، وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ، فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ », «وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا». قلت: لقد ضربت المثل الأعلى فى التعامل مع هذا الصنف من البشر، فقاطعنى:ألا تذكرون ماذا فعلتُ مع كفار مكة، عندما فتحها الله علينا، وهم من آذونا أشد الإيذاء وأخرجونا من ديارنا؟ أجبتُ: قلت لهم، اذهبوا، فأنتم الطلقاء. قلتُ: لكن بعضا ممن ينتسبون إلى الإسلام هاجوا وماجوا وقتلوا ودمروا، وأحدهم مزق نسخة من الإنجيل، وأولئك من يعسرون على الناس دينهم، ويشددون عليهم. بعدها، سكت، صلى الله عليه وسلم، قليلا، ثم قرأ:«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً»، وأنا قلتُ: «يا أيها الناس إياكم والغلو فى الدين, فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو فى الدين» ، كما قلتُ: « إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ،» فلا مكان للغلو والتشدد والتطرف فى الإسلام! قلتُ: وكيف يكون التصرف فى مثل هذه المواقف؟ فقرأ من كتاب الله: «ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم» ،ثم استطرد:ألم تسمعوا عن قصتى مع اليهودى ،الذى كان يلقى بالقمامة ،أمام بيتى، وكيف تحول عداؤه لى ،إلى إيمان وتصديق برسالتى،عندما عدته،لما مرض فانقطع عن إلقاء قمامته؟ قلتُ: بلى، ثم أنشدتُ: الله أرسلكم إلينا رحمةً ما ضلّ من تبعت خطاهُ خطاك كّنا حيارى في الظلام فأشرقت شمسُ الهداية يوم لاح سناك كنا وربي غارقين بغيّنا حتى ربطنا حبلنا بعُراك لولاك كنا ساجدين لصخرة أو كوكب لا نعرف الإشراك تهلل وجهه، صلى الله عليه وسلم قليلا، وبدا لى أنه حزين مما آل إليه حال بعض المسلمين من البعد عن هديه المبين، ثم تلا: «قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله مالا تعلمون». قلتُ: أراك غاضبا من المسلمين أكثر من...، فوافقنى، قلتُ: فكيف النجاة؟ أجاب:«قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ» فأنشدت: لك يا رسول الله نبض قصائدي لو كان قلب للقصيد فداك هم لن يطولوا من مقامك شعرةً حتى تطول الذرة الأفلاك والله لن يصلوا إليك ولا إلى ذرات رمل من تراب خطاك هم كالخشاش على الثرى ومقامكم مثل السماء فمن يطول سماك قاطعنى صلى الله عليه وسلم ،معلقا على ما أنشدته، تاليا قول الله تعالى: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ». قلتُ: إن مقامك أعلى وأرقى من أن ينال منه السفهاء، فأنى للنار من النور، وأنّى للثرى أن يعانق الجوزاء؟ فصمت النبى ولم يعقب، فاستأذنته، فى أن أقرأ عليه ما كتبه مفكرون غربيون عنه صلى الله عليه وسلم، وفيه إنصاف لك ولرسالتك، ويؤكد أن من يسيئون إليك لا يعرفون عنك شيئا، فأذن، فقلتُ: الفيلسوف والأديب الفرنسي الثائر وولتر، قال يوما: «ليس بصحيح ما يُدعى من أن الإسلام استولى قهراً بالسيف على أكثر من نصف الكرة الأرضية، بل كان سبب انتشاره شدة رغبة الناس إليه بعد أن أقنع عقولهم، وأكبر سلاح استعمله المسلمون لبث الدعوة، هو اتصافهم بالشيم العالية» ،كما قال «بارتلمي سنت هيلر» فى سياق حديثه عن أثر الإسلام في الشعوب التي اعتنقته: «كان محمد نبي الإسلام ، أكثر عرب زمانه ذكاء وأشدهم تديناً، وأعظمهم رأفة، وقد نال محمد سلطانه الكبير بفضل تفوقه عليهم..ولهذا فإن الله العليم الحكيم الذي أرسله قد أعده قبل أن يرسله لتحمل هذه الرسالة العالمية بالصفات العظيمة التي تتطلبها رسالته من كثرة الذكاء، وشدة التدين والتقوى، وعظمة الرأفة». قال صلى الله عليه وسلم: حسنٌ قلتُ: فى هذا السياق أيضا، قال «اندريه وجورج مارسيه»: «كان محمد رسول الله، شجاعاً يخوض المعركة بنفسه ليرد الثبات إلى قلوب الذين يضعفون، وكان رحيماً بالضعفاء يؤوي في بيته عدداً كبيراً من المحتاجين»، وفى «دائرة المعارف البريطانية» ،قرأتُ يوما: «كان محمد أظهر الشخصيات الدينية العظيمة، وأكثرها نجاحاً وتوفيقاً، ظهر النبي محمد في وقت كان العرب فيه قد هووا إلى الحضيضِ، فما كان لهم تعاليم دينية محترمة ، ولا مبادئ مدنية أو سياسية أو اجتماعية ، ولم يكن لهم ما يفاخرون به من الفن أو العلوم، وما كانوا على اتصال بالعالم الخارجي، وكانوا مفككين لا رابط بينهم ، كل قبيلة وحدة مستقلة، وكل منها في قتال مع الأخرى. ..فاستطاع في سنوات معدودات أن يقتلع جميع العادات الفاسدة من جزيرة العرب، وأن يرفعها من الوثنية المنحطة إلى التوحيد». فتبسم صلى الله عليه وسلم. قلتُ: وإذا كان الفيلم ينسب إليك أمورا كاذبة وملفقة، فإن الأديب الإنجليزى «جونس أوركس» رد على هؤلاء منذ سنوات طويلة: لم نعلم أن محمداً ، نبي الإسلام، تسربل بأية رذيلة مدة حياته، وكذلك المفكر السويسرى «جان سبيروى ،الذى كتب: «مهما زاد الإنسان اطلاعاً على سيرة النبى محمد، إلا وأدرك أسباب إعجاب الملايين من البشر في الماضي وحتى الآن بهذا الرجل، وفهم علة تفانيهم في محبته وتعظيمه»، كما أن الكاتب الإنجليزى «برنارد شوى قال: «إن أوربا تدرك الآن حكمة محمد، وبدأت تعشق دينه، كما أنها ستبرئ العقيدة الإسلامية مما اتهمتها به من أراجيف رجال أوروبا في العصور الوسطى، وسيكون دين محمد هو النظام الذي يؤسس عليه دعائم السلام والسعادة ويستند على فلسفته في حل المعضلات وفك المشكلات والعقد، ولذلك يمكنني أن أؤكد نبؤتي فأقول: إن بوادر العصر الإسلامي قريبة لا محالة..وإني أعتقد أن رجلاً كمحمد لو تسلم زمام الحكم المطلق في العالم بأجمعه اليوم، لتم النجاح له في حكمه، ولقاد العالم إلى الخير، وحل مشاكله على وجه يحقق للعالم كله السلام، والسعادة المنشودة»، كما لا يمكن أن أنسى ما كتبه القس «لوزان» ،وهو: «محمد ، بلا التباس ولا نكران، من النبيين والصديقين، بل وإنه نبي عظيم، جليل القدر والشأن». قال:حسنٌ . قلتُ: لولاك لم نعبد إلهً واحداً حتى هدانا الله يوم هداك أنت الذي حنّ الجمادُ لعطفه وشكا لك الحيوان يوم رآك والجذع يسمعُ بالحنين أنينه وبكاؤه شوقاً إلى لقياك ماذا يزيدك مدحنا وثناؤنا والله بالقرآن قد زكاك ثم قلتُ:إجمالا، أخشى أن يفهم القوم من حديثنا، أن نتسامح فيما يفعل المسيئون إليك، ولا ننهاهم عن منكرهم؟ فأردف قائلا: « إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا». قلتُ: ألست غاضبا من أولئك المستهزئين؟ فأجاب: «إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ». قلتُ:ولكن لماذا يحدث هذا؟ أجاب: «وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون». قلتُ: لعلك تدرك أن الله لن يتخلى عنك. فأجاب:«وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ». قلتُ: ولكن هل معنى ذلك أن نتخاذل ونجبن ونخاف؟ فأجاب: «إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ».