الكبار فقدوا صدقهم ووطنيتهم .. حتى صرنا ضائعين بسببهم! مسح الأطفال دموعهم وانتابتهم نوبات ضحك ثم قالوا بصوت واحد: فرعون وديكتاتور! لم يدر بخلدي أثناء نزولي ميدان التحرير لتغطية الوقفات الاحتجاجية، أن الميدان قد خلا من الفرق الجمعاوية، وأن أعداداً ضخمة من الاطفال قد احتلته، رافعين شعار "لا عزاء للكبار". وللوهلة الاولى خيِّل لي اني أخطأت الطريق الى ميدان التحرير، فالاطفال قاموا بإغلاقه، كما استولوا على مسجد عمر مكرم، وحولوه بالكامل إلى دار عزاء، وحينما اقتربنا من تلك الحشود اكتشفنا ان الاطفال تتراوح اعمارهم بين الخامسة والتاسعة، وجميعهم يحملون الشموع، ودموعهم تنساب فوق خدودهم الوردية، فى حالة بكاء صامت، بلا نحيب، واقتربت من طفلة صغيرة، وسألتها: ماذا يبكيك يا صغيرتى؟ لم تتقبل أن ترد، واشارت بعينيها الى الشعار المرفوع "لا عزاء للكبار"، حاولت الحديث معها، إلا أنها رفضت الاجابة عن اى سؤال، وتقدمت منا طفلة تظهر على وجهها ملامح الذكاء والجدية، فسألتها: ما اسمك يا صغيرتى؟ فأجابت: الاسماء ليست مهمة لدينا، زينب او مارى او شيماء. سألتها: ما سبب وجود هذا العدد الكبير من الاطفال بهذا المكان، ولماذا انتم هنا ولماذا ترفعون شعار "لا عزاء للكبار"؟ أجابت بسخرية: ألم تفهم بجد معنى الشعار؟ هل يرضيك ما فعل بنا الكبار؟ قلت: الكبار.. وماذا فعل الكبار وماذا تقصدين بكلمة الكبار؟ قالت: لعدم فهمكم رفعنا هذا الشعار، هل سمعت يوما عن كبار يمزقون وطنهم ويمزقون أطفالهم وأجسادهم ؟ قلت: مهلا يابنيتى.. فأنا لا أفهم ماذا تقصدين؟ قالت: لأنك من الكبار فأنت لاتفهم لغة الصغار، فجميع الكبار فرقوا الوطن شيعا وفرقا واتباعا، حتى صار الوطن ممزقاً، احسست بحيرة شديدة، وصرت ابحث بين الاطفال عمن يشفى غليل اسئلتي، الي ان وجدت طفلة فى السابعة، وبيدها ذات الشعار، وسألتها: ما اسمك ايتها الفتاة الجميلة؟ قالت فى سخرية وتهكم: اسمى "كلهم"! قلت: هل هذا اسمك؟ قالت: نعم، انا أمثلهم كلهم، علشان كدة.. اسمى "كلهم". وسألتها: لماذا انتم هنا يا كلهم؟ أجابت: نحن هنا نبكى على مستقبل مصر، اصل الكبار بيقولوا علينا احنا المستقبل، هل سمعت عن مستقبل وطن بدون الكبار؟ - ماذا تقصدين؟ - اقصد ان الكبار قد فقدوا صدقهم ووطنيتهم، يطلبون كل شىء، ويتحكمون فى كل شىء، ويضيعون كل شىء، حتى صرنا ضائعين بسبب الكبار. ادخلتني "كلهم" في دوامة من الحيرة الشديدة، ناديت بأعلي صوت: أريد من يتحدث معي بوضوح.. اشار الي طفل بيده ريشة يرسم بها لوحات على حائط المسجد، صورة لنهر النيل، وصورة للأهرام ومعابد الاقصر ومساجد مصر وكنائسها. قلت له: أنت فنان تجيد الرسم أيها الطفل الجميل. أجاب: لم أكن يوما اهوى الرسم، لكن لأن الكبار قد ضيعوا التاريخ، وباعوا كل شىء، أردت ان يحتفظ الاطفال بذاكرتهم، أنه كان لدينا نهر النيل والاهرام، وكان لدينا مساجد وكنائس، كل ذلك ضيعه الكبار، ولم يعد لنا نحن الصغار سوى تلك الرسوم لنحيا على ذكراها ونسكب من أجلها تلك الدموع ونضيء الشموع وندق الأجراس ونرفع الأذان فى تشييع جنازة الوطن، بعد أن قتله الكبار. صارت حيرتنا اكبر من ان تتخيلها، وكانت لغة الصغار اعلى من طلقات المدافع وهدير الطائرات، وقفنا فى ذهول وكأننا غرقى نبحث عمن ينتشلنا من الغرق، ولم ينجدنا سوى الاطفال الصغار، طفل صغير رفع الغشاوة عن أعيننا والجهالة من عقولنا، من هذا الشعار الذى يرفعه الصغار "لاعزاء للكبار".. وبادرنا هو بالسؤال: هل نحن بحق المستقبل كما تطلقون علينا؟ قلت: نعم أيها الطفل الحزين. قال: فاعلم ان مستقبل اطفال اسرائيل افضل من مستقبلنا نحن اطفال مصر. قلت: لماذا يا صغيرى الجميل؟ قال: لان الكبار هناك فى اسرائيل قد سرقوا ارضاً وزرعوا وطناً واحاطوا به وحافظوا على مستقبل اطفاله، اما فى مصر، فالكبار باعوا الوطن، بعد ان مزقوه، وضيعوا مستقبله، هل عرفت الآن لماذا نرفع شعار "لا عزاء للكبار"؟ أحسست انني اقف عاريا، غبيا، امام هؤلاء الاطفال، لم تسعفنى الذاكرة إلا بإجابة قلتها للاطفال: يا أبنائى.. ان الكبار قاموا بثورة لانقاذ الوطن، والحفاظ علي مستقبله، حرصا عليكم، هل كان يرضيكم الفرعون الديكتاتور الذى كان يحكم مصر؟ مسح الاطفال دموعهم، وانتابتهم نوبات ضحك بسخرية شديدة، قالوا بصوت واحد: فرعون وديكتاتور.. ألم ترضعونا ونحن مازلنا فى بطون امهاتنا قول يا حبيبى"بابا حسنى" و"ماما سوزان".. وبعد ان قسمتم الشعب فرقاً، كل فريق منكم صنع ديكتاتوراً جديدا.. وبعد ان كان لدينا ديكتاتور واحد صار لدينا ألف ديكتاتور.. يبدو اننا يجب ان نرفع شعارا اخر"لا عزاء للمنافقين". لم أجد إجابة.. تاهت منى جميع الاسئلة.. واذا بطفلة تقذف فى وجهي الشعار الذى تحمله وهى تصرخ: أيها الكاذبون.. أيها المنافقون.. اذهبوا بعيدا أيها الكبار.. فأنتم من اجل اطماعكم سعيا وراء الكرسى تنفقون الملايين.. ونحن الاطفال نبحث عن جرعة العلاج فلا نجدها.. وتقولون انكم تعملون من اجل الصغار واطفال الشوارع.. رغم الملايين التي يتم انفاقها في كل مليونية.. لم يقم احد من الكبار ببناء دار لإيواء هؤلاء الصغار.. اذهبوا ايها المنافقون الكبار.. فنحن الصغار قد صرنا كبارا.. ولن يحكمنا بعد اليوم أحد من صغار صغار الكبار!