فى الفترة التى تعرفت فيها على د.عبد الوهاب المسيرى كان قادما لتوه من الولاياتالمتحدة، وكان الاحتفاء به على عادتنا، موالد تقوم ثم تنفض. كنا فى عز المولد. لا تفتح جريدة إلا وفيها عن د.المسيرى وموسوعته. ندوات هنا وهناك. برامج تليفزيونية. كان د.المسيرى فى ذلك الوقت نجما بمعنى الكلمة. وكنت حديث التخرج، لا أكاد أجد عملا ثابتا، يعنى، على بلاطة، ميح. اتصلت به قلقا، فرد علىَّ بأدب وأعطانى نصف ساعة من وقته. لم أكن قرأت أيًّا من أعماله، لكن صديقىَّ حسام الدين السيد ود.أحمد عبد الله، كانا على اطلاع جيد على أعماله، فجلست معهما محاولا أن أفهم أبرز أفكاره. لا أخفيكم أنى لم أكن أحب ما يعرف ب«الوسط الثقافى» المصرى، وأراه مجموعة من الاحتكاريين الفارغين من المضمون. لكن أصدقائى أكدوا لى أن د.المسيرى نسيج مختلف. جمعت الأفكار، وتوكلت على الله، وذهبت إلى منزله. فى طابق بيته الأول ديكور من مفردات ريفية، زير وكوز وأشغال يدوية وفخاريات. وفى الطابق الذى يعيش فيه أثاث بسيط وأنيق. وفى صاحب البيت ألفة، تشعر بها إذ يصافحك وكأنك شخص على قدم المساواة معه، بتعبيرات وجه تلقائية لا تفتعل مبالغة فى أى اتجاه. بالمقارنة مع ما كنت معتادا عليه من «المشاهير»، فقد أسَرَنى هذا. لأول مرة أسمع فى مصر كلاما مختلفا ممن أحاوره. صفة «مختلف» هنا مهمة جدا. مقياس «الصح والغلط» فقط مقياس قاصر. يجعلنا نحب من يُسمِعنا الكلام المألوف، الصح، ولا نلومه على أنه لم يأت بجديد، ولم يبتكر. وكأن الابتكار، فى حد ذاته، ليس قيمة عظيمة. وكأن عباس بن فرناس حين حاول الطيران بطريقته المليئة بالأخطاء لا يستحق الاحتفاء. وأنا هنا أحتفى بالدكتور المسيرى، لأنه فكّر بابتكار، وليس لأنه أصاب فى تفكيره، فهذه متروكة لآخرين أكثر منى علما بمجاله وبمناهج بحثه. حين سألته حدثنى دكتور المسيرى عن العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. وكانت تلك أول مرة أسمع فيها هذا التصنيف. حدثنى عن العلمانية فضرب لى مثلا بتوم وجيرى. نوع مختلف من الأمثلة. لم يقل لى كلمة واحدة لم أفهمها. حدثنى عن المطبخ وارتباطه بالثقافة، عن السكن كأكثر مظاهر الثقافة التصاقا بالإنسان. معه شعرت بمعنى آخر لكلمة ثقافة، يختلف عن المعنى الذى يتحدث عنه محترفو التليفزيون فى تلك الأيام. معنى ليس فيه رايات مرفوعة فوق الرأس، ولا كلام مكتوب على الجبهة، إنما فيه نوتة صغيرة فى الجيب، وفكرة بسيطة فى المخ، واختيار شخصى فى المأكل والمشرب، وفى ما تقرأ، وما تسمع. أعطانى د.المسيرى أولى نصائحه التى أثّرت جدا فى حياتى: «اكتب الفكرة بمجرد أن تأتى إليك، فسوف تذهب ولن تعود». لا تؤجلها إلى الوقت المناسب. كان، رحمه الله، يسمى تلك اللحظة التى تأتى فيها الفكرة لحظة إشراقية. استمر الحوار ثلاث ساعات كاملة. ثم نادى د.المسيرى على «هدهد»، الاسم الذى يدلل به زوجته د.هدى، وعرَّفها علىَّ. ثم اصطحبنى معهما فى سيارته إلى مسرح الجمهورية لكى نشاهد عرض أوبرا. تخيلوا. بعد هذا اللقاء الأول دعانى د.المسيرى إلى حضور صالونه الثقافى، كل ثلاثاء على ما أتذكر. ومنه تعلمت النصيحة الثانية التى لن أنساها. «إن لم تستطع التعبير عن فكرتك خلال دقيقة، فالفكرة ليست جاهزة فى مخك، ولا يمكن أن تُفهمها لغيرك». ثم إنى لم أستمتع بمجلس فى حياتى كما استمتعت بصالون المسيرى. كنت فيه من قلة مختلفة التوجه عن الأكثرية. ومرة واحدة حاول أحدهم أن يقمع فكرة طرحتها، فما كان من الدكتور المسيرى إلا أن قال له ما معناه، «إن كنا هنا لنسمع فقط الكلام الذى نعرفه، فليس لهذا المجلس فائدة». ثم دعانى للاستمرار. لم يتحدث د.المسيرى فى صالونه عن نفسه أبدا، ولا استخدمه لكى «يوجه» الآخرين. فقط يدير الحوار، ويستمع. مع مرور سبع سنوات على تأسيس حركة «كفاية» أتشرف بأن أتذكر هذا الرجل، وهو مستحق للذكرى. لولا أمثاله من المنفتحين على المختلفين معه لما أثمرت البذرة الأولى فى الثورة المصرية. لَكَم تمنيت أن يعيش ليراها، لشدة ما نحتاجه الآن. عزائى أنه يعيش فى قلوبنا.