الفرق بين مشهد إقبال المصريين بالملايين على الانتخابات فى 28/11 والأرقام المتواضعة فى الإعادة 5/11 هو الفارق بين الثقة والأمل فى حدوث تغييرات حقيقية فى بلدهم واسترداد البلد الذى كانوا يحلمون به وجنى ثمار الثورة عملاً وإنتاجا واستقرارا وكرامة وسيادة للمصريين جميعا، وبين ما لوّح به الصراع والتجاوزات وحروب الكلمات والدعايات من إعادة استنساخ الماضى وسيطرة المال والاستقواء بالدين وإعادة استذلال واستغلال فقر وأمية الملايين واختطاف الثورة لمصالح وطموحات جماعات سياسية وليس بعموم الجماعة المصرية وتهديد أعظم ما عاشت وامتدت به مصر وهو وحدة نسيجها الوطنى وروحها الوسطى المعتدل المستضاء والمضاء بالحضارة والثقافة، ذلك الروح الذى اتسع واستوعب واحتضن جميع الأديان السماوية، وصنعت هذه المكونات العظيمة نسيجا وطنيا استعصى على الاختراق والتمزيق وظلت صلابته صخرة التحدى عبر تاريخها الطويل.. لم يتصور المصريون أن يقوموا بثورتهم ليختطفها تطرف دينى أو ليخلصوا من فساد واستبداد نظام ليقعوا فريسة صراع تيارات دينية بدأت منذ بدت لها علامات الانتصار تنقسم على نفسها.. وكان التصور أن بذور الشقاق ستبدأ طرح أشواكها بعد أن يتربعوا على مقاعد السلطة ولكنهم تعجلوا فى التلويح بالانقسام والصراع القادم وتناثرت اتهامات متبادلة بالانتهازية والتسرع والتخلف والتكالب والاستحواذ.. ودون اعتبار لما ينعكس من سلبيات على صحيح الدين وتعاليمه العظيمة، كيف يصدق المصريون أن أول ثمار للثورة يحلمون أن يستظلوا بظلها من خلال انتخابات تضعهم على بداية الطريق لتحول ديمقراطى تتحول إلى استقطاب وصراع بين المسلمين والمسيحيين أو تطرف يهدد وسطية مصر ونورانية وتسامح الرسالات السماوية؟ هل يدرك من يأخذون مصر إلى هذا المنحنى الخطير فى تاريخها أنهم يمشون على خطى مخططات النظام الساقط ورئيسه عندما حذر من أن سقوط نظامه يعنى صعود الفوضى والتطرف الدينى.. وما أبعد الفارق بين هذا الصعود بكل مخاطره إذا لم يلتزم بجواهر القيم الإسلامية ووسطية روح مصر ووحدة نسيجها الوطنى لمقومات أساسية لقوتها واستقرارها؟ ■ هل يدرك المجلس العسكرى مسؤوليته عن الفتن الدينية التى تكاد تعصف بقلب مصر عندما سمح بتشكيل أحزاب دينية، دعك من بقية فتن تفتيت الثورة وقتل الثوار وعدم ظهور نتيجة التحقيق فى جريمة واحدة منها والمحاكمات العبثية لرؤوس النظام السابق من أجل حفنة من الأموال لم يسترد منها جنيه واحد.. كأن سرقة هذه الأموال هى أقصى خطايا هذا النظام وصولا إلى فتنة ملء ميادين مصر بعضها فى مواجهة بعض! نعم كان يجب أن تطبق عدالة القانون والإفراج وإطلاق السراح من السجون بعد كل ما ارتكب بحق الجماعات الإسلامية، ولكن العمل السياسى كان يجب أن يتحسب لكل ما يمزق وحدة النسيج الوطنى. هل كان جزء من مخطط الفوضى أن يتصدر الانقسام والتطرف المشهد الوطنى منذ شكلت اللجان التى قادت إلى تقسيم المصريين فى استفتاء رفض أن يبدأ البناء السياسى موضع دستور يؤمن العمل والمسارات السياسية بما يتسق ويحفظ روح مصر الواحد ووحدة نسيجها الوطنى ورفض قيام أى تناقض بين استلهام حضارة ونورانية وسماحة العقائد السماوية ورفض التطرف فى أى اتجاه لتأكيد وحماية الروح والوحدة التى حفظت مصر عبر تاريخها وصنعت منها خصوصية مصرية تحت التهديد الآن، ذلك الروح الذى كان من أعظم تجليات ثورة 25 يناير ومن أهم أسباب نجاحها، فإلى أين يقودنا الاستقطاب والخلاف الحادث الآن؟! أين القوى والتيارات الوطنية التى تجسد هذا الروح بكل مكوناته العقدية والحضارية والثقافية؟ أين المفر؟ وما المهرب؟ ومن يختار المصريون الذين ينتمون إلى الروح والجوهر والتاريخ والوسطية والسماحة المصرية ويريدون أن يختاروا الأحزاب التى تمثلها وتعبر عنهم تعبيرا أمينا وتعلى مصالح وطن قبل المصالح الخاصة لكل جماعة؟ كيف يختارون وسط هذا التشرذم والانقسام حتى بين ائتلافات الثوار و56 حزبا ومئات الأسماء التى تبحث أكثر عن زعامات فردية ونظام ودوائر انتخابية أقرب إلى المتاهات! كيف لا تقع أصواتهم فريسة أو وسيلة لتمكين استقطاب أو صراع أو انقسام؟ وكيف تنجو مصر من تكالب الذئاب سواء الذين بعد كل ما ارتكبوا من جرائم خيانات عظمى ينامون ويستمتعون بخيراتها ويديرون مخططات إسقاط الثورة من داخلها أو من الذئاب الخارجية المتربصة بأمن مصر واستقلالها ونجاح ثورتها؟ أين الأصوات العاقلة والرشيدة فى جميع التيارات السياسية التى تطفئ هذه النيران وتضع أمام النائب خريطة القوى والتيارات الوطنية التى تحفظ الروح الذى استوعب واحتضن الأديان وصنع من احترامها والتلاحم بينها خصوصية مصرية، لتشجع الناخب أن يخرج بالجسارة والأمل والثقة التى خرج بها الملايين فى الطلعة أو المرحلة الأولى للانتخابات ثم انكسرت تماما فى الإعادة؟ أين أصوات عاقلة ومستنيرة استمتعتُ إلى كثير منها فى مختلف التيارات الإسلامية ورجوت ترشيد من لا يعرفون ويتحدثون ظلما وجهالة باسم الدين؟ لا أريد أن أسجل ما يتم تداوله ونشره من اتهامات واستقطابات متبادلة دون أن تجد ردودا تصحح وترشد، ولا أريد أن أحكى تفاصيل ما هو داخل بيوت مسلمة محترمة ومن سيدات محجبات ومحتشمات ببالغ الاحترام مفزوعات مما يسمعن عن مصادرة الحريات التى لا تتناقض مع الإسلام وتهدد باسم الإسلام. أغار على دينى الحنيف بكل ما علّمنى واستقويت به من قيم وحققت به من نجاحات متواضعة قياسا إلى ما حققت نساء مسلمات فضليات. أغار على دينى من تشويه بجهالة.. هل سنترك قضايانا الكبرى، قضايا البناء والتنمية وإعادة مصر المكانة والمكان إلى ما تستحق وتحقيق وإيصال العدالة الاجتماعية إلى كل مصرى على هذه الأرض الطيبة ودخول سباق وتحديات وإنجازات العلم لنصادر نجيب محفوظ ونهدم آثار الحضارة العفنة -للأسف كما أطلق على الحضارة الفرعونية-؟ لا أعرف لماذا لم يقُم بهذه الجريمة الفاتحون العرب عندما دخلوا مصر ينشرون فى أرضها إشراقات الإسلام وعدالته ورحمته. أرجو أن تدرك تيارات الإسلام السياسى أن نجاحها فى الانتخابات ليس إلا الجهاد الأصغر وأن الجهاد الأكبر استعادة هذه الإشراقات، وهى تشغيل قضايا البناء والتعمير والتحرير والإسقاط الكامل للماضى وفساده وتحقيق أهداف الثورة التى يقطفون ثمارها الآن وأن تكون فى مقدمة مهماتهم الكبرى حماية روح الوحدة والوسطية والتسامى والعدالة.. ذلك الروح الذى كان فى مقدمة المهمات الأساسية لجميع القوى الاستعمارية والاستبدادية تمزيقه وتفتيته! يبقى أن نتفق أن البرلمان الذى يتشكل الآن ليس برلمان الثورة، فارق التمويل والملايين المتاحة لقوى سياسية والفروق الزمنية، وبعض القوى السياسية، بدأت العمل فى الأرض فى عشرينيات القرن الماضى، وقوى الماضى والفساد والإفساد والعصبيات وأرصدة الماضى البائس التى حاصرت الملايين بالفقر والأمية.. برلمان الشباب والقوى الجديدة واسترداد الوعى الجماهيرى وتخفيف بعض آثار الماضى ستمهد للبرلمان القادم بشرط أن يبدأ العمل فى الأرض ووسط الجماهير على الفور وأن تُقرأ جيدا نتائج الانتخابات وأن تتوحد صفوف الائتلافات الشبابية وراء برامج تترجم وتحقق أهداف الثورة وفى مقدمتها الحفاظ على روح مصر الواحد والوسطى والمتسامح والعادل والرافض لأى انقسام يخطط لها! لفتنى ما نشرته «الدستور» 5/12 عما جاء فى حوار أجراه برنامج «90 دقيقة» مع عضو المجلس العسكرى اللواء ممدوح عبد الحق، يهاجم فيه ميدان التحرير ويقول إنه لا يأتمر بأوامره لأنه لا يعبر عن 88 مليون مصرى! يا سيادة اللواء.. إن لم يكن التحرير يعبر عن 88 مليون مصرى فكيف قاد فى 18 يوما إسقاط النظام الذى كان يحكم مصر؟ وكيف سقط الرئيس السابق الذى فوض المجلس العسكرى فى إدارة البلاد؟ هل كانت هناك إرادة أخرى تمثل المصريين غير ميدان التحرير؟ وللتذكرة فقط فميدان التحرير يقاوم أن تقوم ديكتاتورية جديدة وأن تبقى الثورة وأهدافها أحياء ويتصدى لمخططات تفكيكها وإطلاق الرصاص عليها كما يتم إطلاق الرصاص وتصفية الثوار!