مشهد النعوش مؤلم. الثورة مستمرة. ونظام مبارك أيضا. الخريف فى خبطاته الأقوى ضد الربيع. الثورة فى حالة ترقب وحذر، ويأس وإحباط، لكنها لم تفقد قوتها فى الحضور. شباب يواجهون السلطة بأجسادهم، والسلطة تستدعى كل أسلحتها لتمنع زحف أصحاب الخيال المقلق لكل سلطة.. المتمرد على كل تسلط. نعوش تخترق القاهرة، بينما نظام مبارك يفرز حصاده فى مواجهة الجميع. المال السياسى يلعب لصالح إحياء القوى المضطهدة من النظام، ينتقمون باحتلال أرض حررتها جسارة من سارت النعوش فى الشوارع احتفالا بهم. المال السياسى قاد عملية تجارة كبيرة بالديمقراطية، لا لون لهذه التجارة.. استخدمها الجميع، ليبراليين وإسلاميين، وتاجروا فى كوارث مبارك: الفقر والجهل والحاجة. المال السياسى اشترى أصوات الفقراء، وأدار ماكينة رعب كبيرة شككت فى عملية الانتخابات أو جدواها فى خطوات بناء نظام قديم. ماذا يعنى إذا فاز الإخوان بالانتخابات؟ هذه بالتأكيد ليست نهاية العالم، ولا دمارا للدولة الحديثة، ولا إعلانا لدولة الفقهاء. الإخوان فازوا كحزب سياسى لا كجماعة، وبين مرشحيهم شخصيات لم تعرف العمل السياسى من قبل، لكنهم انضموا إلى «الحرية والعدالة»، متأثرين بفكرة التنظيم القوى.. لا بفكرة دولة الخلافة ولا غيرها من أوهام تتسلى الفضائيات باستضافة أصحابها. المدهش أن حزب الإخوان فى لحظة بدا كأنه يتقدم فى حرب وراثة دور الحزب الوطنى على خصوم من بينها أحزاب الفلول، وهذا ما جعله يبدو سلطة تنجذب إليها الأصوات الباحثة عمن يشتريها أو يكافئها بمنح الزيت والسكر.. أو باطمئنان إلى الوعد بأن اختيار مرشح الإخوان هو اختيار الإسلام، وبهذا يكون قد أرضى ربه ولم يخسر النفحات الدنيوية. تجار الأصوات محترفون فى دولة استبداد، يكسبهم الأكثر تنظيما، مثل الإخوان، والأكثر مالا من رجال أعمال أظهروا مرشحين من عدم فى بعض الدوائر. تجارة الأصوات لا دين لها ولا انتماء سياسى، بضاعتها الأولى استغلال الفقر والجهل، تغييب الإرادة إما بالمال وإما باللعب على العواطف الدينية أو تصوير الانتخابات على أنها معركة بين المسلمين والمسيحيين. تجارة ممنوعة، لكنها تكتسب مشروعيتها من واقعيتها المفرطة، وهنا تتصادم الانتخابات مع الثورة بنت الخيال، والقوى المتحررة من الواقع المباشر. الثورة حررت المجال السياسى لتفاجأ بقطعان كانت نائمة فى كنف سلطة الاستبداد، يعلو صوتها مطالبة بالحكم لأن «إسلامها حقيقى» بينما الآخرون كلهم «لا يقبل إسلامهم».. هؤلاء ضحية الاستبداد، ويريدون الآن أن يكونوا جلادين. السلفيون جميعا ليسوا عبد المنعم الشحات طبعا.. ولا صلاح أبو إسماعيل.. كلاهما كائنات تليفزيونية يستمتعون بتقديم استعراضات تثير الدهشة والرعب. والإخوان لم يصلوا فقط بسبب نباهتهم فى التجارة السياسية، لكن لأن هناك من يريد تجربتهم. الأزمة أن الديمقراطية ليست حلا سحريا، كما أنها ليست صندوق انتخابات، لكنها عملية كاملة، وبنية تحتية ترتبط بحرية العمل السياسى وبناء مؤسسات قوية وتوسيع مجال الحريات العامة والخاصة. الديمقراطية ليست منافسة على خطف الحكم، ولا مزايدة على نيل صفقة وراثة الأحزاب المستبدة. الديمقراطية تداول للسلطة، وليست حربا لخطف الدولة كما فعل هتلر عندما وصل بالديمقراطية ليحول ألمانيا إلى دولة فاشية. انتهى هذا العصر.. كما انتهى العصر الذى تستدعى فيه دولة الجنرالات كل جبروتها للقضاء على الإسلاميين. الصورة إذن بعد الانتخابات: مومياء تعود إلى الحياة، هذا هو النظام القديم ممثلا فى المجلس العسكرى والجنزورى، مبعوث العناية لإنقاذ المجلس من مأزق الشرعية. المدهش أن هذه المومياء هى مصدر أمان للبعض، سينقذ البلد من هجوم الكائنات القادمة من عالم خرافى لتحكم وتسيطر... حرب المومياء والكائنات الخرافية.. تشتعل، بينما الثورة تحمل نعوشها وتغنى لهم.. من سينتصر المعركة لم تحسم بعد.. وهذه ليست الجولة الأخيرة بالطبع.