هل أذكّر القراء الأعزاء بحقيقة أن الملايين (جهات رسمية معتبرة قدّرت عددهم بأكثر من 20 مليون إنسان) الذين هبّوا وخرجوا واحتشدوا ورابطوا فى ساحات وميادين تحرير مصر حتى حرروها فعلا وأسقطوا المخلوع ونجله وعصابتهما، هؤلاء جميعا لم يستعينوا بأوتوبيس ولا ميكروباص واحد استأجرته لهم أى جهة أو جماعة لكى ينقلهم من سكون بيوتهم إلى ساحات الثورة الصاخبة؟! أظننى لست محتاجا إلى التذكير بهذه الحقيقة التى بقيت وستبقى دليلا من بين مليون دليل آخر، ليس فقط على صدق وعفوية وبطولة جمهور الثورة، وإنما أيضا على ترابط وتضامن شعب مصر وتوحده فى طلب العلا ورفض القهر والذل والبؤس والمهانة، وأن تعدد مكوناته وتنوع ضفيرة نسيجه هو مظهر للغنى والثراء لا سبب للفُرْقة والتبدد. تصوروا أن غياب «الأوتوبيسات» والميكروباصات وخلافه عن مشاهد الثورة الباهرة يحمل كل هذه المعانى.. طبعا من حقك أن تسال: لماذا؟! لأن الأوتوبيسات هذه والميكروباصات تلك لو حضرت فى مشهد الحدث الثورى الذى تمدد وامتد على مساحة 18 يوما، لكان حضورها استدعى فورا أقاويل وتخرصات لا أول لها ولا آخر تشكك عن حق فى توافر شروط ومظاهر الثورة فى هذا الحدث، منها على سبيل المثال: 1- أن الجمهور المشارك فى الفاعليات الثورية محشود ومعبأ (فى أوتوبيسات وميكروباصات) وليس متحركا ومحتشدا بمحض إرادته الحرة، أى أنه مفعول به ومجرد قطيع مسوق هكذا إلى أعمال وأفعال قد لا يكون واعيا ولا مقتنعا بها أصلا (كانت هذه بالفعل إحدى مقولات التشهير التى استخدمتها أبواق دعاية المخلوع أفندى). 2- أن الذين استأجروا الباصات والميكروباصات هم أصحاب القضية والمشروع لا الركاب. 3- وما دام الركاب أبرياء على هذا النحو فالأمر ليس فيه ثورة ولا يحزنون، ولا بد والحال كذلك من البحث عن صاحب الغرض والمصلحة فى تمويل هذه العملية الكبيرة التى حولت ملايين الناس من شعب إلى ركاب خرجوا من بيوتهم لا يلوون ولا يقصدون شيئا إلا الحصول على متعة الفسحة ومشاهدة ميدان التحرير. 4 وأخير وليس آخرا، سيكون منطقيا السؤال بلؤم عن المصدر الذى أتى منه صاحب المصلحة بكل هذا المال الوفير المدفوع فى عملية النقل والمواصلات تلك. إذن خلوّ مشهد زلزال ثورة 25 يناير من الأوتوبيسات والميكروباصات ساهم فى قطع وجزّ كل الألسنة التى كانت قطعا ستلهج بكل التخرصات السابقة، وكان واحدا من أقوى مظاهر نقاء الحدث الثورى المتفرد فى تاريخنا وتاريخ الإنسانية جمعاء، وقد ظل هذا المظهر حاضرا وملحوظا فى كل أيام «الجُمع» المليونية التى تتابعت بعد الزلزال الأصلى، لكن فجأة اختلف المنظر وانقلب رأسا على عقب عندما اقتحمت فى يوم الجمعة 29 يوليو الماضى (جمعة «قندهار» الأولى) آلاف الحافلات والأوتوبيسات والميكروباصات صورة ميدان التحرير الأصلية وشوهتها وهتكت معالم براءتها، وجعلت ساحة الميدان تبدو غاصّة بحشدين لا حشد واحد، ناس طيبين وجيوش عرمرم قُدّت من حديد وصاج وصفيح تحاصرهم وتشيع فى الأجواء حولهم مظاهر «رحلة» لا مظاهرة. يوم الجمعة الماضى تكرر المنظر نفسه فى ميدان التحرير، بشر محشودون ومحاصرون بالأوتوبيسات من كل اتجاه، لهذا لمّا ضاق خُلق بعضهم اضطروا إلى استعارة هتافات جمهور ماتشات الكرة وشرخوا حناجرهم مرددين: «الصحافة فين الإسلام أهُه».. هل كانوا يقصدون أن الإسلام دخل مصر أول من أمس فقط؟! لأ طبعا، إنه تعبير احتجاجى ماكر على محاولة تحويلهم من مواطنين إلى ركاب حافلة يسوقها سائق أحمق ومتهور.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.