ماذا تقول فى من يهاجمون رجلا يحمل لافتة كتب عليها «يسقط الجهل؟». فى الأسبوع الماضى تناولت تحريم التيارات الأصولية فى العالم بأسره للمعرفة والفنون بدعوى أنها تبعد الإنسان عن الدين، وقلت إن الباحث الفرنسى أوليفييه روا ابتدع تعبيرا يصف تلك الظاهرة بالجهل المقدس، أى إضفاء القداسة على الجهل، وهو تعبير لا يسىء إلى القداسة فى شىء، بقدر ما يسخر من الجهل، فإذا بى أواجَه بسيل من الشتائم يعتبر أصحابها أنهم يدافعون عن الدين بينما يجهلون أنهم يدافعون عن الجهل! فالباحث المذكور لم يختص حركة أصولية بعينها فى معرض حديثه عن ثقافة تقديس الجهل، بل تطرق أيضا إلى نقد طوائف مسيحية بروتستانتية معاصرة، تحرم أشياء لا يمكن أن يتخيلها عقل. دعونى أحدثكم مثلا عن طائفة الآميش الذين رأيتهم فى أمريكا عندما قمت بزيارة بنسلفانيا فى التسعينيات. هؤلاء القوم يعتقدون أن المعارف التى يباركها الله توقفت بنهاية القرن السابع عشر، وأن كل ما أنتجته قريحة البشر بعد ذلك التاريخ ضلالات تؤدى إلى تفكك الأسرة المسيحية ولا ينبغى أن يستخدمها المسيحى الحق! وعلى هذا فهم يركبون عربات تجرها الجياد ولا يستخدمون الكهرباء، ولا يرسلون أطفالهم إلى المدارس الثانوية بعد إتمامهم الصف الثامن الأساسى، ويعالجونهم بالأعشاب، ولا يعرفون التطعيم ضد الأمراض ولا الجراحات التى تستخدم التخدير، إلى آخر قائمة طويلة تستبعد كل ما أنجزته الحضارة الإنسانية بعد القرن السابع عشر! ألا ترى معى أن هؤلاء القوم يُضفون على جهلهم قداسة دينية زائفة؟ هل يعتبر اتهام الأمريكيين المعاصرين لهم بالجهل موقفا ضد المسيحية التى يعتنقونها مثلهم؟ أيستحق جهلهم أن يحظى بمن يدافع عن قداسته الزائفة غيرهم؟ لا أظن. حتى الآميش أنفسهم لا يسبون من ينتقدهم فى معرض دفاعهم عن سلوكياتهم المتطرفة لأنهم قوم متسامحون لا تسمح لهم عقيدتهم بالعنف الجسدى واللفظى. المدهش أنهم منغلقون ويحظرون على الغير الانتماء إليهم أو الزواج من نسائهم! لكنهم لتسامحهم لا يحرمون على أبنائهم وبناتهم الانفصال عنهم والانخراط فى المجتمع الأمريكى إن أرادوا. أما لدينا فهناك من يحرّمون السينما والاستماع إلى الموسيقى وغيرها بناء على تفسيرهم الخاص لبعض النصوص، ولا أحد يعترض على حريتهم فى ما يحرمونه على أنفسهم ولكن الأمر يختلف عندما يدعى أحد احتكار الحقيقة ويحكم على صحة إيمان من لا يقتنعون بآرائه ولا يمارسونها. فتاوى التحريم أيا كانت دوافعها الخاصة تكتسب قداسة دينية فى أعين من يتبناها من البسطاء لأنها تتحول إلى أمر يحض الدين على تنفيذه رغم أنه قد لا يكون من المحظورات التى توجد فى النصوص التى لا تحتمل التأويل. وعندما يحرم أحدهم السينما مثلا فهو يقصرها على أفلام البورنو والعرى، متجاهلا تاريخها الطويل الذى يحفل بروائع تشارلى شابلن وغيره، ويضفى على تحريمه لها مهابة زائفة. هل يجوز تحريم السكين لأنه أداة يمكن استخدامها للقتل أم أن القتل هو المحرم؟ أجبنى من فضلك: كيف تنتقد وتدحض الماركسية والوجودية مثلا وأنت تحرم قراءة الفلسفة؟! هل تكتفى بما يقال لك من أن ماركس فاسق وأن الوجوديين كفار؟ وهل يكفى السباب الذى لا يمت بصلة إلى لب الموضوع لدحض نظريات تجهلها؟ المنطق البسيط يقول إن معرفة الأفكار لا بد أن تسبق رفضها. هل صرنا نحتاج إلى إعادة تعريف البديهيات؟ الذين يحرمون قراءة الفلسفة والتاريخ الفرعونى والنظر إلى وجوه التماثيل يسيئون إلى الدين بشدة إن كانوا يعتقدون أن ضعاف الإيمان سيتركون الدين وينخرطون فى عبادة إيزيس وأوزوريس مثلا! وحتى إن صح ظنهم فتحريم المعرفة للحفاظ على ضعاف الإيمان هو ثمن باهظ يدفعه المجتمع ويشبه منع السفر بالطائرات والبواخر والسيارات تجنبا للحوادث! كيف يساء فهم حديثى عن ضرورة الفطام عن أفكار غير دينية تتسم بالجهل بأنه حديث عن الفطام عن الدين؟ إن كنا قد وصلنا إلى هذه الدرجة من التربص أو القراءة السطحية فقل على مستقبل هذه الأمة السلام. لقد كنت أتحدث عن ضرورة الفطام عن الخرافات التى لا تمت إلى الدين بصلة ووصفتها بالخرائب العقلية التى تسكنها العفاريت، وتقبع فيها أفكار لا تمثل قداسة فى أى دين، ولا يدعو إليها أى تحضر. أفكار من نوع أن الجنس الأبيض أرقى من الأسود، ونقيضها الذى يقول إن المسيح لا بد أن يكون أسود لأن المسيحية تقوم على التسامح الذى لا يعرفه الجنس الأبيض الشرير! أو أن العرب وبقية الشعوب حيوانات فى نظر اليهود، والتى يقابلها أن اليهود أبناء الأفاعى والقردة والخنازير! أو أن النساء أقل من الرجال، وغيرها من أفكار ما أنزل الله بها من سلطان، ولا أعرف ما الذى يستحق الفخر فى عدم الفطام عن أفكار بالية مثلها؟ لم أتحدث عن الدين بسوء مطلقا بل أشرت إلى الخزعبلات التى يحرفها البعض ليُكسِبوها قداسة دينية لا تستحقها. ختاما، إذا كان البعض قد استخدم تليفزيوننا الجهول لتحريض من اسماهم «المواطنين الشرفاء» على مهاجمة المصريين الأقباط فى مذبحة ماسبيرو، التى تسببت فيها مغالطات بائسة أضفت قداسة زائفة لا مبرر لها دينيا على جرائم التضييق عليهم ومنعهم من ممارسة صلواتهم وشعائرهم بحرية، فأظن أنه يحق لى أن أحرض القراء الشرفاء للدفاع عن حرية الرأى ضد من يهاجمون بتعليقاتهم التى تفتقر إلى اللياقة أى كاتب حر يهتف قائلا: يسقط الجهل الذى لا يستحق أن تنسب إليه أى قداسة زائفة.