استوقفنى خبر صغير نشرته أمس صحف عدة فى زوايا صفحات الحوادث، يتحدث عن أن سلطات الأمن فى مطار القاهرة أحبطت محاولة سيدتين -فقيرتان طبعا- السفر إلى الأراضى الحجازية، بغرض اغتنام فرصة موسم الحج وزحام الحجيج الشديد فى أثناء أداء المشاعر المقدسة لممارسة «النشل»، ثم العودة بغنائم وثروات حرام ربما يكون من بينها لقب «الست الحاجة»، الذى قد لا تتورع أى من النشالتين الغلبانتين فى التحلى به واستخدامه دائما أو عند اللزوم! أعرف، كما أغلب القراء، أن هذا الخبر لا يفصح ولا يكشف عن حقيقة جديدة، وإنما يكرر الإشارة إلى ظاهرة مدهشة «أكثر مما هى مقرفة ومؤسفة»، أضحت شائعة ومعروفة منذ زمن بعيد، ألا وهى استغلال الدين وأكثر المناسبات قداسة، وأنقى لحظات السمو الروحى فى ارتكاب موبقات وفواحش يندَى لها الجبين، لعل «نشل» أمتعة الحجيج وحاجاتهم أقلها خزيا وأهونها إجراما. ومع ذلك ورغم درايتى «هى دراية جاءت متأخرة على كل حال» بحقيقة الواقع الذى يشى الخبر المذكور بجانب منه، ما زلت كلما سمعت أو قرأت هذا النوع من الأخبار أشعر بصدمة ودهشة عظيمتين، وأجد لسان حالى يهتف بالتياع: كيف لإنسان مهما كانت ملته وعمق نوازع الشر فى نفسه أن يُقدم على «نشل» أو إيذاء إنسان آخر فى لحظة تظللها هذه الأجواء الروحية الشفيفة، التى يفترض -لو كانت صادقة- أن لها قوة نفاذ وعدوى قادرة على غزو القلوب وإيقاظ الحس وتهذيب النفس وتبريد هياج الأطماع والغرائز؟! سألت نفسى هذا السؤال مرات لا تحصى ولا تعد، ولم أعثر على إجابة شافية تحيط بكل أبعاد وأسباب تفشى ارتكابات وظواهر على ذلك القدر المروع من الشذوذ، فقط عندى يقين أن قطاعا مهما من هذه الأسباب يخرج من منطقة نتواطأ جميعا على سترها بالصمت، وأقصد شيوع وتجذر ثقافة «التدين الشكلى» فى مجتمعنا الراهن، واختزال العقائد الإيمانية فى حفنة طقوس ومظهريات، تبدو من فرط النفاق منبتة الصلة بالتزامات ومقتضيات الإيمان الحق، الذى يقر ويستقر فى القلوب ويصدقه السلوك والعمل. ويستطيع المرء أن يتبين بسهولة الحجم الهائل للأذى والخراب الروحى الجماعى الذى تُحدثه تلك الثقافة المنافقة الكذابة، إذا تأمل فى مفارقة مروعة صرنا نتعايش معها ببلادة تثير العجب، فبينما المجتمع يكاد ينفجر بالضجيج والرطان والكلام فى الدين وعن الدين وإقحامه فى كل شىء وأى شأن، فإننا نلحظ فى المقابل تراجعا وتآكلا خطرا ومطردا فى الأخلاق وابتذالا فى السلوك وميلا متزايدا إلى القسوة والعدوان. وما دمت بدأت ب«النشل» فلا بد أن أختم بحكاية من مخزون ذكرياتى مع صديقى النشال النبيل الغلبان «سعيد بُقو» الذى كتبت كثيرا عن علاقة الأخوة الصادقة التى ربطتنى به ونسجناها معا فى أثناء تمتعنا بكرم ضيافة نظام المخلوع أفندى فى سجن مزرعة طرة (حيث يقيم الآن نجلاه).. وملخص الحكاية أننى فى مرة صارحت صديقى هذا بانزعاجى واستنكارى الشديد لفعلة لاحظت حرصه ودأبه على ارتكابها فى كل صلاة جمعة، فما إن يكتمل عقد زملائى نزلاء مستشفى السجن الذى تحول مقرا فخما لإقامة كبار الصوص والمرتشين (كنت أنزل فيه مجانا لأننى صحفى)، وعندما يتأكد سعيد أن هؤلاء الذين يتزينون جميعا بلقب «الحاج فلان» انتظموا واتخذوا مكانهم المعتاد فى الجزء المكشوف من باحة المسجد، حتى أجده يتحصن ويتخفى خلف جدار يطل على هذه الباحة، ويبدأ فورا فى رجمهم بكمية ضخمة من الحصى الصغير بينما ملامح الحبور والسعادة تسرح على وجهه! قلت له: لماذا ترتكب هذا السلوك الصبيانى الشيطانى يا سعيد؟ مش عيب تعمل كده؟! لأ مش عيب.. ده انا كل مرة باخد ثواب فيهم. تاخد ثواب على رجم ناس بالحصى وهىّ بتصلى؟! أيوه.. عشان بافكرهم باللى ح يحصل لهم فى الآخرة إن شاء الله.. يا بيه دول ناس بيصلوا وبيحجوا وبيسرقوا مال النبى (فى الوقت نفسه).. بذمتك الكلام ده يخِيل على ربنا؟!