مَنْ أكثر شخص من الشخصيات العامة تدَّخلنا فى حياته الخاصة، ودخلنا غرفة نومه، وتحدثنا عن علاقته بزوجاته، وطريقة استحمامه، وأكلته المفضلة، وكيف كان يأكل، وكيف يداعب زوجاته ويتكلم مع أهله، وينام على أى جنب، ونوع ملابسه، وتفاصيل ثروته وفراش بيته، ولون وطريقة صبغة شعره ونوع دواء صداعه، بل بحثنا عن شكل الوشم على كتفه؟ إنه النبى صلى الله عليه وآله وسلم. رجل ليس هناك لا أعظم ولا أطهر ولا أجل منه وهو يفتح حياته الخاصة للعامة والدهماء، وليس فقط للسياسيين والمشتغلين بشؤون دولة يثرب. النبى الذى لم يقدر على نهى صحابة أجلاء وهم يرفعون أصواتهم فى بيته لأدبه وكرمه فتدخل الله من فوق سبع سماوات وأنزل قرآنه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2]، إلى هذا الحد قبل الأمر الإلهى كانت معاملة النبى بلا ضوابط بروتوكولية، التدخل فى خصوصيات النبى كان واضحا ومدهشا فى حياته، ولعل حادثة الإفك وتحول المسجد النبوى إلى مؤتمر لمناقشة ماذا يفعل النبى فى ما يردده الناس (لاحظ الناس هنا كانوا صحابة مهاجرين وأنصارا) عن اتهام زوجة النبى الأثيرة الحبيبة بالتورط فى علاقة مع شخص آخر؟ دليل على انفتاح النبوة فى ما يخص حياته الخاصة، شوف هل هناك أكثر من هذا حساسية مفرطة؟! هل هناك أكثر من ذلك تدخلا رهيبا فى حياة سيد الخلق؟! ومع ذلك فهو نفسه الذى سمح بالكلام الواضح الحر حول الواقعة، وهو نفسه الذى سمع الاستشارات على مسمع من الناس كلهم، وبعد شهر كامل من أحاديث لا تهدأ وشكوك لا تكف على ألسنة يثرب أنزل الله سبحانه وتعالى براءة السيدة عائشة فى قرآن يتلى حتى يوم القيامة، وليستمر الكلام حتى يومنا هذا يروى ويحكى ويفسر من القرآن الكريم واقعة شديدة الخصوصية فى حياة النبى الكريم، لا تَحرُّج ولا حرج، القرآن الكريم وهو الكتاب المنزه يتحدث عن واقعة زواج لنبينا محمد فائقة الخصوصية وهى زواجه من زينب بنت جحش -رضى الله عنها- وما شاب ذلك من أقاويل تناقشها كتب التفسير بكل جرأة وحرية. ثم هناك فى السنة النبوية وكتب السيرة ذلك السماح المحمدى المدهش للتحدث فى حياته الخاصة بمنتهى الشفافية، أما ما قدمته السيدة عائشة من بعد وفاة النبى حتى وفاتها فهو درس فى حق الناس فى معرفة أدق تفاصيل الحياة الخاصة للنبى، حتى إن ثمة حديثا تروى فيه السيدة عائشة علاقة النبى مع زوجاته فى فترة الحيض. عن عَائِشَةَ قالت: (كانت إِحْدَانَا إذا كانت حَائِضًا أَمَرَهَا رسول اللَّهِ أَنْ تَأْتَزِرَ فى فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرُهَا، قالت وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إربه كما كان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْلِكُ إربه). وتأتزر معناها: تضع ساترا من قماش من السرة إلى الركبة، وتقصد ب«فور حيضتها» أى وقت وجود الحيض، و«إربه» هو العضو الذكرى. طبعا سيقول كثيرون إن هذا الكلام عن الحياة الخاصة للنبى للتعلم والتفقه فى الدين، ولكن كان يمكن أن يتم هذا دون الإشارة للحياة الخاصة للنبى، فقد قال النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- للمسلمين لما أمر القرآن باعتزال النساء فى المحيض فأجاب: (اصْنَعُوا كُلَّ شَىْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ)، دون أن يقول النبى إنه يفعل كذا وكذا، بينما أفصحت وأوضحت السيدة عائشة دونما أن تشعر أن فى هذا الحديث (ومئات غيره) أى مساس بالمكانة النبوية المطهرة، وكأننا إزاء درس سيستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فى حق الناس فى معرفة الحياة الخاصة للقادة والحكام ما دامت تؤثر فى حياة الأمم والشعوب. يبقى أن أجمل مشهد فى خصوصيات النبى ترويه لنا السيدة عائشة رضى الله عنها- عن ليالى حفر الخندق: (كان رسول الله يختلف إلى ثلمة فى الخندق يحرسها حتى إذا آذاه البرد جاءنى فأدفأته فى حضنى فإذا دفئ خرج إلى تلك الثلمة يحرسها). الله.. هل شهدت حنانا وحبا وروعة مثل هذا المشهد، يشعر الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بالبرد فيعود إلى خيمته يستدفئ بحضن الحبيبة ثم يعود إلى القتال والنضال!