سبق ووجهت عتاب المحبة إلى قداسة البابا شنودة منذ ما يقرب من العام، على صفحات جريدة «صوت الأمة»، وقت أن كان الصديق والزميل وائل الإبراشى رئيسا للتحرير.. كان العتاب تحت عنوان «عفوا» قداسة البابا شنودة، إبان التظاهرة الشهيرة داخل الكاتدرائية بالعباسية!! يومها ترددت الهتافات النارية والصيحات القوية، التى عبرت عن غضب جامح لا يعبر عن أبناء الوطن الواحد، ووقتها أبديت الاندهاش لمن سمح بالتظاهر داخل المعقل الدينى لقداسة البابا شنودة، لأن المتظاهرين كانوا من محافظات متنوعة! وأنا أكن تقديرا خاصا لقداسة البابا شنودة، أولا لبساطته ورقته وأصالته وكرم ضيافته، وثانيا لكونه البطريرك الكبير وصاحب الرؤى والعقل الواعى والمستنير، ولأنه الحكيم والفيلسوف والواعى بجميع علوم الحياة، ولكونه أيضا الأديب والصحفى والشاعر الكبير.. وأنا لن أنسى ولن أتناسى حفاوته ومحبته وكرمه الطائى وقت أن ذهبنا إلى دير الأنبا بيشوى، بوادى النطرون، وهو الدير المحبب له، وسبق وكانت به محنة الإقامة الجبرية، بسبب «القرار» إياه الذى أصدره الرئيس الراحل أنور السادات، وإبان تولى اللواء النبوى إسماعيل مهام وزارة الداخلية فى السبعينيات!.. فى هذا الدير ذى الهدوء الطاغى، حيث السكون، فتشعر بالأمان والراحة والطمأنينة، واطمئنان السريرة، وكنا مجموعة من الصحفيين والكتاب ضمن وفد ترأسه الصحفى الراحل جلال عيسى، وكان وقتها وكيلا لنقابة الصحفيين، وكان معنا الراحل الصحفى جمال بدوى، وشاركنا فى اللقاء السياسى اليسارى أستاذ الهندسة الدكتور ميلاد حنا.. وكان موجودا أيضا صديقى الصحفى كارم محمود، وسبب الوجود للاحتفاء بقداسة البابا وتسليمه كارنيه عضويته لنقابة الصحفيين، لكونه عضوا قديما بها، وتحت اسم «نظير جيد». هذا اللقاء كان فى مطلع التسعينيات، وبما يقرب من ال21 عاما.. وقتها رحب بنا قداسة البابا وصافحناه وبالعناق وقبلناه، وكان وجهه مبتسما. ويردد وبالحنو كلام الترحيب، وجلسنا فى حلقة دائرية أمام مضيفته، وهاتك يا حواديت وقصص وذكريات وحكايات، ورؤى وأفكار تنساب عن أحوال الدنيا والدين وحتى عن مضامين نظريات العلوم والابتكارات والاختراعات والنظريات، وفيما تضمنه الشعر العربى ولو كان جاهليا!! وكان قداسة البابا يبهجنا بالأشعار التى يحفظها عن ظهر قلب، ويروى بسلاسة مضامين التاريخ الفرعونى والقبطى والإسلامى، والقصص القرآنى، حتى فى ما يتعلق بالسيدة هاجر وماريا القبطية ومريم البتول.. كان اللقاء ثريا وخصبا، وكنا نتلقف غذاء الفكر والعقل وروح المودة والطيبة والسماحة.. كنا ننهل الأفكار وبشغف، لرونق الحوارات وثرائها، وكان البابا يداعب الدكتور ميلاد حنا، بلطافة ورقة متناهية.. ولإضفاء جو المرح كنا نستمع للقفشات والنكات الساخرة وفى حدود أدب الكلام! وأريد أن أقول: إن نسيج أمنا العظيمة «مصر» متماسك ومتشابك، لا بالممزق أو المتهالك، حيث يحاول البعض الآن أو قل قلة تعمد الإساءة للعلاقة الأبدية بين القبطى المسلم والقبطى المسيحى، إذا ما طرأ أى حادث، ولو كان التصادم بين سيارة القبطى وسيارة المسلم، فتجد من يلقف الواقعة أو المعلومة، وهاتك يا نفخ وتضخيم للصورة! وعليه، منذ متى كانت هذه المواقف الهابطة علينا موجودة، والسبب يعود إلى مجموعات الأفاعى والحيات التى تنفث السموم وتلدغ فضائل الوطن، حيث الإدلاء بتصريح وهو الفجيج، واللافت أن كل من هب ودب يدلى بالرأى الشارد ليشعل النار لتحرق الفضائل، وكأن هناك حرب إبادة ومعارك دامية، وعلى غرار ما يحدث من الصهاينة. فهل بالفعل يا قداسة البابا، مصر محتلة؟! للأسف، يتناسى المتعصب، وأيا كانت ديانته، أن أرض مصر باركها الأنبياء والرسل، وشرفتها أطهر نساء العالمين، مريم البتول، ومن ينسى رحلتها المباركة داخل أرض ربوع الوادى، وهى تحتضن المسيح عليه السلام، وبصحبته يوسف النجار هروبا من بطش الملك هيرودس، الذى أمر بقتل كل المولودين من الأطفال ومن هم فى عمر أقل من عامين، عندما ظهرت بشارة المولود الذى سيهدد مكانته وعرشه، فكان لا بد من الرحيل والذهاب بالصبى وأمه إلى مصر، بلد الأمن والأمان والطمأنينة، وكانت الرحلة التى رعاها الله وجاءت مريم لتبارك بقدومها أرض الوادى الخصيب.. أرض وطنى مصر، التى كرمها الله بذكرها خمس مرات فى محكم آياته من القرآن، وأكرمها وباركها المسيح، ومن ينسى مقولته: «مبارك شعبى مصر»، هذه هى مصر التى ترفض الانفلات والفوضى الخلاقة وتظاهرات الإساءة والوقيعة والفتن، وأعتقد أنه فى ذهن قداسة البابا كلام كثير، بل فى قلبه أكثر من هذا، لكنه يفضل أن يصمت!! وعفوا، هناك مواقف تستلزم النطق بالكلام إذا ترددت فى المظاهرات.. هتافات العار التى تدعو إلى الاقتتال والأخذ بالثأر وإطلاق الرصاص والنار! يا قداسة البابا.. هل ترضى بالتطاول على المجلس العسكرى، وهو من استمد شرعيته من الشعب، الذى منحه شرعية الاعتلاء المؤقت لمنصب الحكم، ولأن الشعب المصرى أصيل ومستنير ويرفض المماحكة أو التبرير!.. وقداستك لا ترضى بهوجة الخناقات والبراعة فى إطلاق الصرخات والتباكى على شاشات الفضائيات، وبلغة «الحناجر» التى تحولت إلى خناجر، وقداستك ترفض تأجيج الفتنة، لأنها «النقمة»، والبعض من القساوسة -للأسف- يطلقون جمل الكلام وكأنها مواويل، لاعتقاد البعض منهم أن هذا ما تتضمنه مزامير الأناجيل؟! أخيرا.. لن ننسى كرم ضيافة قداسة البابا، الذى كان فى منتهى اللطافة والتواضع والبساطة.