انقلبت الأحوال أيها الكرام. كنا نظن واهمين أن التراجيديا كما يدرسها طلبة المسرح والأدب، هي سقوط السادة والملوك من فوق عروشهم، وأن الكوميديا هي أن تطلق عليهم شعوبهم نكاتها اللاذعة، فإذا بالحكام يخرجون لنا ألسنتهم قائلين: ما دمتم تجرأتم وزعمتم في أدبياتكم السياسية أن الشعب هو «السيد» إذن فليحق عليه سقوط السادة التراجيدي إلى الوحل! وإمعانا في ذلك المنطق المعكوس صارت الكوميديا وإطلاق النكات الساخرة حقا للحكام لا للمحكومين، فاستمعنا إلى تنكيت بعضهم على شعوبهم. رأينا العقيد القذافي وهو يطلق نكتته الشهيرة مخاطبا شعب ليبيا بوقاحة لا مثيل لها: من أنتم يا جرذان؟ وسمعناه يخبرهم بأنه دفع ثمن بقائه في السلطة إلى الأبد!.. «أنا دافع ثمن بقائي هنا». كان يقصد بالطبع أنه خاطر بحياته عندما قاد انقلابه العسكري ضد الملك السنوسي في أول سبتمبر عام 1969، فإن كان مجرد قيامه بمخاطرة يمنحه الحق في البقاء في السلطة وتوريثها إلى أبنائه، فلماذا إذن نستكثر على أهالي شهداء ثورة الخامس والعشرين من يناير أن ينالوا أبسط حقوقهم بعد أن دفعوا حياة أبنائهم ثمنا لكرامة الوطن؟ أليس من حقهم علينا وقف الضباط المتهمين بجرائم قتل أبنائهم عن العمل حتى تجري محاكماتهم في إطار قانوني يضمن نزاهتها وحيادها، ويضمن عدم استخدامهم سلطتهم في ترهيب الشهود وإفساد أدلة الإدانة التي قد تتيح لهم وظائفهم التمكن من إتلافها أو الاستبدال بأحرازها؟ ربما يستكثر حكامنا هذا عليهم لأن الشعب هو السيد، ولذا فعليه أن يسقط في الوحل ويستمع صاغرا لكوميديا الحكام ونكاتهم التي يطلقونها عليه! يا للهول! رحم الله يوسف بك وهبي. انقلب المنطق في مسرح التحرير الكبير. أصبحت الكوميديا لعبة الحكام والتراجيديا قدر الشعب! بعد أن تعاملت الداخلية بنفس طريقتها القديمة بوحشية مع أهالي الشهداء، لم يعد ينقصها إلا أن تخبر الشعب بأكمله بأن من يخرج إلى الميدان في يوم الثامن من يوليو عليه أن يدفع ثمن بقائه هناك! ما هذا العبث؟ هل يجب علينا أن ندفع لكم أيها السادة ثمنا جديدا من الشهداء في كل خطوة نتقدمها؟ ألا يحق لنا أن نرى القتلة واللصوص الذين أفسدوا البلاد لعشرات السنوات وهم يقفون وراء القضبان؟ إذا كان الجنرالات الذين يقودون انقلاباتهم وهم يحتمون بداخل الدبابات يرون أن مخاطرتهم بحياتهم تمنحهم حق البقاء الدائم في السلطة وتوريثها لأبنائهم، أفلا يحق إذن للبسطاء الذين يواجهون الرصاص بصدورهم العارية أن يحلموا بعدالة سريعة ناجزة لا تضع في حساباتها إلا وجه الحق؟ عندما خسر منتخبنا الوطني أمام منتخب جنوب إفريقيا في الوقت المحتسب بدلا من الضائع في أولى منافساته الدولية بعد الثورة، حمدت الله كثيرا بصوت عال فتعجب الصديق الذي كان يجلس إلى جواري وقال منزعجا: «إنت اتجننت؟ بتحمد ربنا عشان خسرنا؟ دا احنا كده جايز نخرج من تصفيات كاس العالم». وقتها قلت له بلا أي محاولة للاستظراف: «كنت أخشى أن نفوز فيهدي حسن شحاته ذلك الانتصار إلى المجلس العسكري كما اعتاد أن يهديه إلى الرئيس المخلوع»! ضحك صديقي فقلت له جادا إنها ليست نكتة أطلقتها وإنني لم أكن أقصد الفكاهة. أليس المصريون هم من يقولون «يا سادة يا كرام» على ألسنة رواتهم على مر العصور: «أسمع كلامك اصدقك أشوف أمورك استعجب؟»، وأنا للحق أصدق كلام رجال المجلس العسكري الشرفاء ولا أريد أن أتعجب من أمورهم. أصدقهم عندما يقولون إنهم عسكريون لا يجيدون التعامل مع السياسة والحياة المدنية، وإنهم لذلك يريدون العودة إلى ثكناتهم في أسرع وقت ممكن، ولكنني أتعجب لأنهم يقولون هذا بينما يحرصون في ذات الوقت على الانفراد بالقرار وعدم استشارة القوى الوطنية التي يقرون ضمنا بكلامهم السابق بأن رجالها يفهمون أكثر منهم في تصريف أمور سياسة الدولة وبناء مستقبلها الديمقراطي. أيها الجنرالات الموقرون لا يشكك أحد في وطنيتكم من قريب أو من بعيد، ولكن يجب على من يتولى القيادة أن لا يحتكر الحكمة وإلا انطبق عليه المثل المصري القائل بأنه «يتعلم الحلاقة في رؤوس اليتامى». الشعب يريد أن يرى المحاكمات العاجلة العادلة للقتلة واللصوص. يريد مشاهدتهم وهم يقفون بانكسار وراء القضبان. الشعب يريد أن يرى مؤسسة أمنية جديدة تعمل لخدمته لا لترويعه وإذلاله لحساب من يحكمون، وباستخدام العدة والعتاد والذخيرة التي يدفع ثمنها من قوته لكي تصوب إلى صدور أبنائه! بالله عليكم لقد وصلت الكوميديا إلى ذروتها المأساوية أو وصلت التراجيديا إلى ذروتها الهزلية التي لم تكن لتصل إليها إلا بالإمعان في حلولكم الوسط. الثورات تقوم أيها السادة لنسف الأنظمة القديمة التي بليت من كثرة الترقيع. لم تنجح ثورة على مر التاريخ إلا لقيامها بتغيير جذري. ربما تكمن المشكلة في أن سقوط مبارك لم يكن تراجيديا، بل كان سقوطا ناعما فوق وسادة من ريش النعام. ترى هل يخرج علينا المخلوع مرة أخرى على شاشة سعودية ليقول لنا: من أنتم؟ ربما، لأن الثمن الذي دفعه شعب مصر لا يكفي في نظر البعض لمحاكمته، بل يكفي بالكاد لبقائه بعيدا عن العيون.