كنت حزينة وحائرة ومصدومة وأحتاج إلى فاصل لأخرج خارج دائرة حياتى قليلا وأستعيد هدوئى، فقررت أن آكل كشرى عند أبو طارق! مشوار وسط البلد وزحمة محل الكشرى ثم امتلاء المعدة وما ينتج عنه من غياب عن الوعى لفترة كل هذا يصلح مخرجا. بحثت عن مرافق فلم أجد غير أحد الزملاء، قال لى إنه فى نقابة الصحفيين سيقطع المسافة فى دقائق، وطلب أن أنتظره على باب أبو طارق ففعلت. أسندت ظهرى على سيارة ونظرت إلى لا شىء وسرحت، أفقت على صوت رجل يشير إلى علبة الكشرى فى يده ويقول لى «اتفضلى معانا» بنغمة صوت تعطى إيحاء عكسيا، إيحاء بأن وقوفى قريبة منه يسبب له إزعاجا. فى حين أننى لم أكن أراه إلى أن قال لى اتفضلى معانا، انتبهت إلى أنه معاق، ساقاه مبتورتان من فوق الركبة، وأنه يجلس على كرسى موتوسيكل مجهز، وتحيط به على أطراف الموتوسيكل حقيبتان قماشيتان تحتويان على أدوات حياة كاملة، يقف أمامه طفل يبدو أقل من خمس سنوات، يمسك علبة كشرى بيد ويأكل بملعقة بلاستيك باليد الأخرى ويرتدى نظارة طبية كبيرة، ويضع قطعة قطن فى أذنه، اعتقدت للوهلة الأولى أن الطفل معاق أيضا إعاقة سمعية أو بصرية، لكن بعد قليل من المراقبة تأكدت أن الطفل سليم تماما وأنه مدرب على الأكل بطريقة غاية فى الرقى، وضع له الجالس على الموتوسيكل قطعة من ورق التواليت تحت ذقنه، سحبه من اللفة وحشرها فى ياقة القميص، ثم أعاد اللفة إلى مكانها فى مقدمة الموتوسيكل. كان الطفل يرتدى بنطلون جينز وقميص كاروهات بكُم طويلا، وكانت ملابسه أنيقة ونظيفة ومكوية بشكل لا يتناسب مع حالة الموتوسيكل وصاحبه. وظل الطفل يطمئن على وضع قطعة الورق بين كل ملعقة وأخرى. لا يملأ الملعقة بالكشرى، ولا يضعها كلها فى فمه، ولا يفتح فمه فتحة كبيرة، ولا يتعجل إعادة الملعقة إلى العلبة، وعندما يعيدها ينتظر لوهلة قبل أن يملأها، عملية منظمة مدروسة، تتم بهدوء يراقبها الجالس على الموتوسيكل صامتا، وينظر الطفل إليه بين الحين والآخر ليطمئن أنه راض عن أدائه، وليستجيب إلى أى إشارة تصدر من عينه، فى الوقت نفسه يأكل الراكب على الموتوسيكل علبة كشرى بطريقة مختلفة، فهو يضع الكشرى بالملعقة فى نصف رغيف بلدى صانعا سندوتش كشرى، ما إن ينتهى منه، حتى يصنع آخر وهكذا وضع نصف العلبة فى رغيفين، ثم أكمل باقى العلبة بالملعقة، ومسح يده بورقة مناديل ووضع العلبة والورقة فى الصندوق المخصص للمخلفات، فى نفس اللحظة توقف الطفل عن الأكل ونظر إليه دون أن يتكلم، فقال له «خلاص شبعت»، هز الطفل رأسه إيجابا، أخذ منه العلبة المحتوية على نصف كمية الكشرى تقريبا ووضعها بجواره على الموتوسيكل ومسح فمه بالورقة وعدل من وضع القميص،وألقى الورقة فى الصندوق ثم أكمل أكل الكشرى المتبقى، قبل أن يلقى العلبة فى الصندوق، رأيت زميلى قادما فعرفت أن الفاصل سينتهى الآن وسأعود إلى الحياة. فى اللحظة الأخيرة سألته (ده ابنك؟) قال (أيوه) كان فارق العمر بينهما كبيرا. قلت (ليه حاطط له قطن فى ودنه). قال (عشان التراب والهوا والصوت)، قلت (آه عشان بيركب معاك الموتوسيكل) هز رأسه. قلت (ربنا يخلى). لم أستطع أن أقطع طقوس الأكل، وكنت أنوى أن أتكلم معهما بعد أن تنتهى. ظللت طوال الدقائق التى قضيتها فى محل الكشرى أتمنى أن أخرج فأجدهما فى نفس المكان، أحسست برغبة عارمة أن أسأله اسمك إيه؟ وأن أقول له عن اسمى لنصبح أصحابا.