تغيرت زوايا الكاميرات. إنها الثورة التي جعلت كل التليفزيونات تنصب كاميراتها في ميدان التحرير، بعدما كانت تتسرب أخبار الميدان بخوف أكبر من خوف يوم القيامة. الميدان هو المركز.. وصانع السياسة.. وشريك أساسي في الحكم. ما زالت المؤسسات القديمة تقاوم من المجلس العسكري إلى الحكومة، وبينهما إعلام يلهث خلف المسؤولين والوزراء والحكام الجدد.. ولأنهم مصابون بالتخلف العقلي لم يدركوا بعد أن لا قيمة لسكان قصور الحكم ومكاتبه. زوايا الكاميرا تغيرت وهذه هي الثورة. لم تستطع المحطات قديمها وجديدها.. الهروب من الميدان كما كانت تفعل أيام أنظمة الاستبداد.. ولم يكن هناك أهم من «الشعب الذي يريد الثورة من جديد». كل الحكام والوزراء والمسؤولين.. في الخلفية.. في الخبر الثاني أو الثالث. تغيير زاوية الكاميرات واختفاء صورة الرئيس من الصفحات الأولى، هي الثورة على عقل العبيد الذين يلهثون خلف الحاكم، ويقدسونه ويمنحونه كل طقوس الولاء والطاعة. ما زال هؤلاء يعملون لفهم المضاد الحيوي للاستبداد.. صحفيون يقدسون المشير بعد الرئيس.. ومذيعون يبتسمون كلما اتصل أحد أعضاء المجلس العسكري بتليفونه المحمول.. كل هؤلاء يكتسبون أهميتهم من السلطة واقترابها أو رضاها.. وحتى المحترم منهم يصاب بحالة بلاهة منقطعة النظير أمام صاحب السلطة والقرار. كل القنوات أرسلت كاميرات بث مباشر إلى الميدان، لأنها مهنيا لا يمكنها الهروب أو التغاضي عن الحدث، بمن في ذلك المنتمون نفسيا وذهنيا إلى النظام الذي سقط يوم 11 فبراير. التغيير في الزوايا يكشف عن تغيير في مصر لم يشعر به أحد، لأنه في المنطقة الناعمة، في الوعي والنظرة الأعمق تغيير في عقلية كانت تهتف بالروح والدم للحاكم، وتتوقف الحياة تماما لأنه خرج من قصره.. والآن لا كرامة إلا للشعب وإرادته. الثورة.. استمرت إذن.. وستستمر.. لأنها أصبحت مركز الواقع الذي يحميه ثوار.. ويستفيد منه انتهازيون.. وتحاربه جيوش سرية. الثورة ليست عابرة.. إنها في طريقها.. وتنتقل من جولة إلى أخرى برشاقة أحيانا وبإنهاك أحيانا. الثورة يقظة.. والثوار يريدونها كاملة.. يعني سقوط النظام بالكامل بعد أن بدأ نظام مبارك مثل تمساح جمد نفسه وقفز من تحت البحيرة الاصطناعية. للثورة روح كبرى ما زالت تتجول من الميدان، ولم تختنق بكل البكتيريا والفيروسات التي راهنت على الهجوم على الجسد الضخم الذي ولد يوم 25 يناير، ولم يكتمل جهاز مناعته بعد. اللحظة الصوفية للميدان، ما زال لها سحرها، وتلهم الثوار في مواجهة خطط الالتفاف أو الضرب من الداخل. لم تعد حزمة القرارات الاستباقية للمجلس العسكري والحكومة فاعلة، والضحك على الثورة أو وضعها في مواجهة شعب ما زال ممستسلما على الكنبة، محذرا برسائل من تليفزيونات كل مهمتها ترويض الشعوب. أراد المجلس والحكومة تحويل الثورة إلى وجهة نظر تصارع وجهات نظر أخرى.. والثورة أثبتت أنها إرادة تغيير، وليست مجرد وجهة نظر. الثورة إرادة التغيير.. ولن تتوقف إلا بحدوث التغيير وبناء دولة حديثة. الثورة لن تتوقف بوصول حزب للحكم. أو انتخاب رئيس.. أو حكومة. الثورة في مصر لم يصنعها تنظيم سياسي لديه خطة وقيادة وجناح مسلح.. ولا تنظيم عسكريا له قوة وقيادة أيضا. الثورة المصرية صنعتها قوى جديدة من الشعب.. وجدت نفسها في الميدان.. ونحتت جسدها الكبير في الميدان.. وأسقطت الرئيس من الميدان.. وهذا يعني أن الميدان هو الأداة السياسية لصناعة التغيير. إنها المرة الأولى في تاريخ مصر التي يصنع فيها الشعب جمهوريته.. الشعب في الميدان ليس جمهور المتفرجين الذين يهتفون للحاكم، وهو يطل من شرفته.. الميدان هو الشرفة التي تطل منها مصر على المستقبل.. إنها ثورة نقلت زاوية الكاميرا من غرف النجوم إلى الجمهور.. الجمهور هو البطل في لحظة لن تنسى من التاريخ