في الدساتير المصرية المتعاقبة، يمكنك أن تجد عديدًا النصوص التي تنص على الحريات العامة والشخصية، والاختلافات بين دستور وآخر، يعود إلى طبيعة النظام السياسي من شبه الليبرالي، إلى التسلطي والتعبوي، ومن ثم تتغير بعض الصياغات من الوضوح والانضباط اللغوي والإصطلاحي إلى الصياغات الفضفاضة، وعموميتها الغامضة، إلا أن أخطر ما حدث، ولا يزال هو وضع النصوص المقررة للحقوق الدستورية، ثم إحالة التنظيم القانوني للحق إلى القوانين، التي غالبًا ما تقيد هذا الحق وتجعله رهن أجهزة الدولة والنظام، في ظل التسلطيات السياسية والقانونية والدينية التي يتساند ويدعم بعضها بعضًا، من هنا تحولت القوانين المكملة للدستور، والتي تنظم الحقوق إلى رهينة في أيدي هذه الأجهزة والسلطات التي سرعان ما تضع القيود والضوابط والمنظومة الإجرائية المعقدة التي تعسر تمتع المواطنين بهذه الحقوق، وتتحول الحقوق إلى قيود باهظة تؤدي إلى إعاقة الحصول عليها، أو تؤدي إلى مصادرة واقعية لأصل الحق الدستوري. تقود هذه الاستراتيجيات الدستورية والقانونية في أعقاب تأسيس نظام يوليو، إلى القيود التي فرضت باسم أيديولوجيا التعبئة السياسية والأيديولوجية على المجال العام المصادر، والمعتقل رمزيًا وواقعيًا وإداريًا وأمنيًا، من هنا غياب الحق في التظاهر، وفرض القيود على الجمعيات الأهلية، ومن ثم مصادرة الحق في المبادرة الفردية، أو التظاهر السلمي ناهيك بتأثيم الحق في إنشاء وتشكيل أحزاب سياسية في ظل التنظيم السياسي الواحد، أو بعد إقرار نظام التعددية السياسية المقيدة، الشكلى والجزئي. بعد 25 يناير، و30 يونيو استمرت ثقافة القيود القانونية التي تُعقدَ وتضبط حصول المواطن على الحقوق الدستورية المقررة في الوثيقة الأساسية لنظام الحكم، والحريات، والعلاقة بين السلطات، ومواقع القوة فيما بين بعضها بعضًا، والتمايز الوظيفي فيما بينها. من ناحية أخرى تخضع تفسيرات النصوص الدستورية -والأهم في الواقع- القواعد القانونية لتفسيرات وتأويلات جهات الإدارة، والتركيبة البيروقراطية لجهاز الدولة المصرية العتيدة، والتي تفرض مواريثها في التفسير على عديد الأطراف الأخرى، وفي بعض الأحيان تعطل في التطبيق والممارسة بعض هذه القواعد كنتاج لثقافة الدولة البيروقراطية المركزية، والمهوسة بهذا الطابع التاريخي على نحو يعرقل أي مسعى جدي لتطوير البيئة السياسية والاجتماعية والإدارية كي تستوعب القيم السياسية الديمقراطية، والثقافة السياسية من الاستبداد والطاعوية والبطريركية والإجماع إلى التعددية والتنوع السياسي وتمثيل كافة المكونات المجتمعية الطبقية، والمناطقية والعرقية، والدينية والمذهبية في إطار مؤسسات حقيقية للمشاركة المجتمعية والسياسية. الدساتير المصرية حول الدولة المصرية الحديثة -1923، 1930- أقرت بحرية التدين واعتبرتها مطلقة، لأنها جزء لا يتجزأ من حرية اختيار المواطن المصري لما يؤمن به، وألا يفرض عليه أحدًا عقيدة أو ديانة أو ممارسة دينية ما، لأن حرية التدين والاعتقاد، هي حرية الضمير الفردي في الاختيار بين الاعتقادات والشعائر التي يعتقد فيها، ويحقق من خلالها ضميريًا السكينة والتوازن والراحة النفسية من خلال اختياره الحر لما يؤمن به، وما لا يعتقد فيه. هذا الاختيار من المشرع الدستوري في المرحلة شبه الليبرالية -23-1952- جاءت تعبيرًا عن طبيعة النظام السياسي الديمقراطي، واختيارات النخبة السياسية الحاكمة التي كانت ترى في حرية التدين والاعتقاد أحد أبرز القواعد الدستورية الحديثة والمعاصرة، وتعبيرًا عن مبادئ المساواة، والمواطنة، ودولة القانون. من ثم كان هذا الاختيار واضحًا بقبول التعددية الدينية والمذهبية التي اتسم بها المجتمع المصري من خلال المكونات الإسلامية السنية – وداخلها المذاهب الأربعة الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية بالإضافة إلى المذهب الشيعي الاثني عشري، وسنية المكون الإسلامي الأغلبي، والحنفي لم يكن يقصى المذاهب أو المدارس الفقهية الأخرى بما فيها بعض الشيعة أيًا كانت أعدادهم، وكان الأزهر يدرس هذه المذاهب من خلال كبار مشايخه. داخل هذا التكوين، تجلي وبقوة وفعالية في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية المكون القبطي الأرثوذكسي، والكاثوليكي والأنجيلي. من ناحية أخرى كان اليهود المصريين –القرائين والربانيين– يشكلون جزءًا من هيكل التعدد الديني في مصر. كانت الثقافة المصرية لديها طاقة كبرى على هضم وتمثل التعددية الدينية، وفرض تفاعلات اجتماعية وثقافية توحيدية بين هذه المكونات تجعلها قادرة على إنتاج قسمات مشتركة وعابرة للأديان والمذاهب، بل وإنتاج أنماط من التدين الشعبي الذي يعبر عن القيم الشعبية والوطنية الواحدة على الرغم من التمايز بين هذه الأديان والمذاهب. يبدو أن ذلك يعود أيضًا إلى ثقافة التحديث والحداثة التي استعيرت مع عمليات بناء الدولة الحديثة مع محمد علي، وابنه إسماعيل باشا، والأنماط المعمارية الأوروبية في المدن –القاهرةوالإسكندرية– وما أطلق عليه مصريًا القاهرة الخديوية، على نحو أدى إلى تبلور ثقافة مدنية تقوم على التعدد، والفراغات العامة، والمجال العام، والمقاهي والمتنزهات العامة وهو ما أدى إلى تيسير التفاعلات الاجتماعية، وبناء الموحدات بين المتعددين، خاصة في ظل وجود الجاليات الأجنبية، والشوام، والمتمصرين منهم، وكل جالية تحملُ معها ثقافاتها، ومورثاتها وأعرافها وتطلعاتها، على نحو أدى إلى تشكيل ثقافة كوزموبوليتانية حول الإسكندريةوالقاهرة. من ناحية أخرى، كان بعض أبناء هذه الجاليات والمتمصرين يعيشون مع المصريين في مدن المحافظات الأخرى -المنصورة والسويس والإسماعيلية وبورسعيد، وأسيوط والمنيا... إلخ. بل وبعضهم من اليهود المصريين واليونانيين دخلوا بعض القرى المصرية وفتحوا محال لبيع السلع........ إلخ. البيئة الكوزموبوليتانية، وتشكل ثقافة المدينة الحديثة وتراكماتها أدت إلى إنتاج أرضيات اجتماعية ذات محمول شبه حداثي يقبل بالتعددية الدينية وبالتعايش المشترك في ظل الموحدات المشتركة. ثمة أيضًا الحركة القومية الدستورية المعادية للاستعمار البريطاني والمطالبة بالاستقلال والدستور معًا مع ثورة 1919 ومشاركة المواطنين المصريين معًا فيها، الأقباط والمسلمين والتلاحم الوطني وراء حزب الحركة الوطنية آنذاك الوفد، أدى ذلك إلى إقرار المشرع الدستوري في دستور 1923 بالحرية الدينية، بل وحتى في ظل الانقلاب الدستوري الذي قاده إسماعيل صدقي باشا في دستور 1930 اعتبر حرية الاعتقاد مطلقة، وهو ما يعني أنها كانت جزءًا من الثقافة الدستورية والسياسية القائمة في البلاد، وتحترمها النخبة السياسية الحاكمة. تُعد المرحلة شبه الليبرالية ذهبية لدى عديدين في مسألة التعايش الديني بين المصريين متعددى الأديان والمذاهب، وذلك على الرغم من بعض التوترات والمشاكل "الطائفية" –وفق الوصف الأكثر شيوعًا في الكتابات المصرية على الرغم من عدم دقته– وعلى رأسها: حادثة فطيرة أو شطيرة السيد المسيح، وهجوم الأقباط على اليهود المصريين وهجرة غالبهم إلى الإسكندريةوالقاهرة من أماكن تواجدهم الأخرى. ثمة حوادث أخرى، إلا أن مشكلة بناء دور العبادة استمرت منذ الخط الهمايوني، وشروط العزبي باشا العشرة طيلة هذه المرحلة حتى ثورة يوليو 1952، الذي استمر فيها هذا الموروث البيروقراطي إزاء حرية ممارسة الشعائر الدينية المرتبطة أساسًا بالحق في بناء دور العبادة. الخط الهمايوني 1856 الذي أصدره السلطان عبد الحميد الأول ليست له أي صفة تشريعية ملزمة للسلطات المصرية وتحديدًا التنفيذية وهو ما يختلف عن الفرمان والديكريتو، ولم ينتشر في الجريدة الرسمية المصرية، التي صدرت قبل الخط الهمايوني ووفق ثقافة الباحثين في تاريخ القانون المصري الحديث والمعاصر. إن مصر كانت تتمتع بالاستقلال الدستوري، ومن ثم لم يكن للخط الهمايوني وفق سمير مرقس "أي تأثير قانوني على بناء الكنائس بعد ثورة 1919". من ناحية أخرى صدرت عام 1933 شروط العزاب باشا وكيل وزارة الداخلية المصرية التي وضعت قيودًا إدارية على إنشاء الكنائس، صدرت في ظل دستور 1930 الذي شكل انقلابًا دستوريًا، في ظل ديكتاتورية إسماعيل صدقي باشا. من ناحية أخرى كانت هذه الشروط العشرة تتصادم قيودها مع أصل الحق الدستوري الوارد في المادتين 12، 13 من الباب الثاني الذي خصصه المشرع الدستوري (في حقوق المصريين وواجباتهم) حيث جرت المادة 12 على أن "حرية الاعتقاد مُطلقة والمادة 13 التي ذهبت إلى "تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقًا للعادات المرعية في الديار المصرية على أن لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب". والجدير بالإشارة أن القضاء المصري انتصر للحق في حرية العبادة، وبناء الكنائس، وعلى رأس هذه الأحكام، حكم محكمة القضاء الإداري في 26 فبراير 1951 الذي ذهب إلى "أن إقامة الشعائر الدينية لكل الطوائف كفلها الدستور. كما ألغى قرار لوزير الداخلية برفض الترخيص ببناء كنيسة على أساس قلة عدد أفراد الطائفة. وذكر الحكم أنه ليس يوجد نص يضع حدًا أدنى لعدد الأفراد الذين يحق لهم إقامة كنيسة. هناك أيضًا الحكم الهام الذي أصدره السنهوري باشا عميد الفقه القانوني المصري والعربي في الدعوى رقم 615 لسنة 5 قضائية وذهب إلى "أن اشتراط ترخيص في إنشاء دور العبادة على نحو ما جاء في الخط الهمايوني لا يجوز أن يتخذ ذريعة لإقامة عقبات لا مبرر لها دون إنشاء هذه الدور مما لا يتفق مع حرية إقامة الشعائر الدينية. إن حرية الاجتماع للقيام بشعائر الدين تدخل ضمن الحريات التي يحميها الدستور ما دام لا تخل بالنظام العام ولا تنافي الآداب. والحكومة لم تزعم شيئًا من ذلك. ومن ثم يكون الأمر بتعطيل الاجتماع الديني قد وقع باطلاً مما يتعين معه القضاء بإلغاء الأمر المطعون فيه فيما تضمنه من منع الاجتماعات الدينية" (ورد في كراسة سمير مرقس، القوانين المتعلقة بحرية العبادة (بناء الكنائس نموذجًا) يبدو أن مشكلة بناء دور العبادة للأقباط، بدأت مع ثورة يوليو 1952 واستمرت طيلة تطورها السياسي والاجتماعي، في ظل التسلطيات السياسة والقانونية، والدينية، والبيروقراطية، وهو ما سوف نتناوله في المقال القادم.