كلما سمعت تعبير "الإصلاح الاقتصادى" تحسست محفظتى خائفًا كمواطن من الطبقة الوسطى التى تنهار الأرض تحت أقدامها كل يوم. فما بالك بالمواطن الغلبان الذى يتعلق بخط الفقر باستماتة ويدس يده مرتعبًا فى جيبه، قابضًا على جنيهاته القليلة التى ربما تلفظ أنفاسها تحت قبضته قبل أن تطير كالعصافير؟ تعبير "الإصلاح الاقتصادى" صارت له سمعة سيئة، أسهم النظام الحالى بجدارة فى وصولها إلى ذروتها، بعد أن أصبح بمرور الأيام تعبيرا مخادعا لا يرتبط بالتنمية الشاملة التى تعد الأفراد بارتفاع متوسط دخولهم، بقدر ارتباطه السيئ المباشر بإضافة أعباء جديدة على كاهل الفقراء. فهم وحدهم الذين يتحملون سداد فاتورة السياسات الاقتصادية الخاطئة، والإجراءات القاسية التى يشترط صندوق النقد الدولى قيام الدول المقترضة بتطبيقها قبل حصولها منه على القروض، وذلك لكى يضمن تدفق قروش الفقراء إلى خزائنها العامة، ذات العجز الدائم فى الموازنة، بما يجعله يطمئن بعض الشىء إلى قدرتها على سداد أصول وفوائد الديون فى مواعيدها. إجراءات الإمعان فى إفقار الفقراء تشمل رفع الدعم عن الوقود والغذاء والدواء، وتحصيل ضرائب على السلع لا يتحملها الأثرياء من المنتجين أو المستوردين أو تجار الجملة، أو حتى صغار الموزعين، بل يتم إضافتها على الفواتير المتعاقبة التى يتحملها المستهلك فقط فى نهاية المطاف، باعتباره اليد الأخيرة التى تلتقط السلعة "End User"، والذى يمثل بالطبع أضعف حلقة فى تلك السلسلة، ويمكن تشبيهه بالحائط المائل الذى يرتكن عليه الجميع، والذى لا يهتم أحد بانهياره رغم ما قد يؤدى إليه ذلك من سقوط وشيك لجميع الأطراف. الأنظمة التى تتورط فى الإنفاق الدعائى والترفى المستفز، وفى شراء ولاء مؤسسات الحماية بعلاوات دورية كبيرة لكى تضمن استمرارها فى الحكم، تفشل دائما فى ابتكار خطط تنمية ناجحة ترفع قيمة عملتها الوطنية وتقلل معدلات التضخم، لأن ذلك النوع من التنمية، التى تذهب عوائدها للشعب، لا يمكن صناعته إلا عندما تنحاز السلطة بحق للفقراء، وتتوقف عن دهس رقاب المعدمين رافعة شعار "ليس بالإمكان أبدع مما كان". البنك الدولى يشبه شخصية شايلوك المرابى اليهودى فى مسرحية "تاجر البندقية" لوليم شكسبير، وهو شخص غليظ القلب، وضع شرطًا بالغ الفظاعة لبطل المسرحية التاجر الشاب النبيل أنطونيو، يتمثل فى اقتطاع رطل من لحمه الحى إذا عجز عن تسديد دينه وفائدته الباهظة فى موعدهما المحدد. هذا الشرط العجيب يجعلك تشعر بأن المرابى يهدف إلى الانتقام من المقترض المتعثر بصورة ربما تتجاوز اهتمامه باستعادة أمواله ذاتها! لأن تطبيق ذلك الشرط المفزع يعنى بالطبع فقدان المدين لحياته، وبالتالى فقدانه قدرته على السداد. لكن الأمر يتجاوز مجرد الانتقام الدرامى عندما تعجز دولة عن سداد دينها لصندوق النقد الذى تديره مؤسسات رأسمالية عتيدة لها أجندات خاصة تضمن لها تحقيق مصالحها. لهذا غالبًا ما تتسبب شروط الصندوق الجائرة فى إفلاس الدول المقترضة، حتى صار من الصعب على الدارسين العثور على واحدة منها أفلتت من الانهيار الاقتصادى، باستخدامها تلك القروض فى تنفيذ خطة حقيقية للإصلاح. وهى مشكلة مركبة بالطبع، لا يتحمل الصندوق وزرها بمفرده، بل تتحمل القدر الأكبر منه الأنظمة السياسية لتلك الدول لانحيازاتها الخاطئة وإنفاقها السفيه. عندئذ يصبح رطل اللحم المقتطع من الجسد الحى هو فقدان تلك الدول سيادتها السياسية على قراراتها، وربما الجغرافية أيضا على كل أراضيها. لا خير يرتجى من أنظمة عالمنا العربى التى ترى أن استمرارها فى السلطة مرهون بإقناع المواطن بأن ثورته على أوضاعه السيئة تأتى له بأوضاع أسوأ منها، وبأن خروجه السلمى إلى الطريق مطالبًا بأحوال حياتية أفضل قد يؤدى إلى فقدانه حياته برصاصات يدفع ثمنها من قوت يومه لحماية حدوده وأمنه الشخصى. شد الأحزمة على الرقاب تنفيذًا لروشتة إصلاح مراوغة هى المرحلة التى تلى شد الأحزمة على البطون، وهى مرحلة لا يمكن لعاقل أن يراهن عليها، حيث يتعذر فيها التنبؤ بسلوك الفرد والمجموع.