لم يكن أحد يعرف كيف كان يشعر باروخ جولدشتاين فى فجر يوم 25 فبراير عام 1994، فى هذا اليوم استيقظ ذلك الطبيب اليهودى المقيم فى إحدى المستوطنات وتوجه إلى مدينة الخليل، وهناك اقترب من الحرم الإبراهيمى، حيث كان المسلمون يؤدون الصلاة فجر يوم جمعة فى منتصف شهر رمضان. ولم يستوعب أحد منهم شيئا إلا وهم يجدون جولدشتاين يمسك رشاشا يطلق به النار على المصلين، ليقتل 29 ويجرح 150 آخرين، قبل أن تنفد ذخيرته ويلتف حوله المصلون ليضربوه حتى قتلوه. لم يكن أحد يعرف كيف كان يشعر جولدشتاين وهو يضع قدميه داخل الحرم الإبراهيمى، لكننى أعرف. إننى كنت أشعر برهبة ورجفة وعدة مشاعر أخرى متداخلة لم أشعر بها من قبل. يومها كنت فى زيارة إلى فلسطين بدعوة من بلدية رام الله للمشاركة فى مخيم دولى تطوعى للشباب قبل ستة أشهر. وفى ذلك اليوم قرر منظمو المخيم أن يعرفونا على أماكن مختلفة فى فلسطين، وكانت المحطة الأولى فى بيت لحم، حيث قمنا بزيارة كنيسة المهد، وهى زيارة يكفى أن تقوم بها لتشعر بأن زلزالا اجتاح كيانك، وبأن ما كنت تسمعه عن وجود «عبق تاريخى» هو شىء حقيقى، وليس مصطلحا أسطوريا كما كنت أعتقد، والحديث عن زيارة بيت لحم يطول ويطول، لكن هذا ليس مجاله، ففى المحطة الثانية قصتنا حيث بلدة الخليل القديمة. فى الطريق إلى الخليل ستجد عدة لافتات مكتوب عليها «الخليل»، وتحتها كلمة «حبرون» باللغتين العربية والعبرية، وهو ما يفسره دليلنا فى الرحلة بأن لكل مدينة فلسطينية اسمين أحدهما عربى والآخر عبرى، قبل أن يقول لنا إن الخليل تقع فى الضفة الغربيةجنوبالقدس بنحو 35 كم، وهى تعتبر ثانى أكبر المدن الفلسطينية بعد مدينة غزة من حيث عدد السكان والمساحة. والمدينة مقسمة إلى البلدة القديمة والحديثة. الأولى هى وجهتنا، حيث تقع بمحاذاة المسجد الإبراهيمى، ورغم أنها بعد اتفاق الخليل الذى تم توقيعه بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1997 صارت مقسمة إلى قسمين: الأول يخضع للسلطة الفلسطينية، والثانى يخضع لسيطرة الجيش الإسرائيلى، فإنك ستجد الإسرائيليين فى كل مكان حتى تلك المناطق التى يفترض أنها خاضعة للسلطة. وصلنا أخيرا إلى البلدة القديمة، وهناك تشعر أنك انتقلت إلى عالم آخر، شوارع قديمة عبارة عن أزقة كأنها خرجت للتو من روايات نجيب محفوظ، وبيوت صغيرة ودكاكين قديمة معظمها مغلق، لكنها تذكرك بزنقة الستات فى الإسكندرية، نفس السلع المنخفضة السعر ونفس التجار الطيبين وحتى نفس الستات اللاتى يفاصلن عند الشراء. إلا أننا لاحظنا وجود سور كبير فوق رؤوسنا بامتداد الطريق، وهو ما قام بتفسيره مرشدنا الفلسطينى قائلا إن إسرائيل قامت باحتلال محافظة الخليل بما فيها المدينة بعد حرب 1967، وقامت بمصادرة جزء كبير من المدينة لإسكان المستوطنين الأجانب فيها، خصوصا فى البلدة القديمة. ومنذ ذلك الوقت بدأ المستوطنون فى الاستيطان بمحيط المدينة، ثم فى داخلها، حيث أقاموا عدة مستوطنات إحداها قرب المسجد الإبراهيمى. وبدأ عدد كبير من السكان الفلسطينيين فى النزوح من المدينة، خصوصا فى ظل مضايقات المستوطنين، وبعد أن أغلقت القوات الإسرائيلية آلاف المحلات، وهو الأمر الذى استمر حتى يومنا هذا. ثم أشار إلى السور فوق رؤوسنا، موضحا أن السكان الفلسطينيين قاموا ببنائه لمنع القاذورات التى كان يلقيها عليهم المستوطنون الإسرائيليون الذين يسكنون فوقهم. ومررنا بعدها من نقطة تفتيش إسرائيلية لنصل أخيرا إلى المسجد الإبراهيمى. منذ اللحظة الأولى التى تخطو فيها قدمك داخل المسجد ستشعر برهبة، كأنك انتقلت إلى قطعة من الجنة، تتلفت حولك لتجد المصلين فى كل جانب، وإلى جوارهم قطعة من التاريخ، هنا قبر سارة زوجة إبراهيم عليه السلام، وهنا قبر رفقة زوجة إسحق عليه السلام، وإلى جواره بخطوات قبر إسحق نفسه، ثم قبر يعقوب ومنبر صلاح الدين، ثم ستجد ركنا يقبع فيه قبر إبراهيم عليه السلام. تقترب من القبر لتلمسه وأنت تشعر أنك فى عالم آخر، قبل أن يخرجنا منه دليلنا الفلسطينى لينقلنا إلى عالم مغاير، مشيرا إلى كاميرات منتشرة على بعض الأركان ليوضح لنا أن هذه الكاميرات تخص القوات الإسرائيلية، وهو ما أصابنا بالذهول. كاميرات مراقبة للقوات الإسرائيلية داخل المسجد الإبراهيمى! ليفسر لنا دليلنا بأن هذا سببه باروخ جولدشتاين. منذ عشرين عاما بالضبط، وفى منتصف شهر رمضان كان المصلون فى المسجد، وكان صوت المؤذن ينادى بأذان الفجر، بينما يمر مصلون جدد من الحواجز أمام الجنود الإسرائيليين، وبينما كان الإمام يُكبّر والمصلون يسجدون لله من خلفه دوّى صوت الطلقات، وامتلأ المكان برائحة البارود، وسالت الدماء فى المسجد المقدس، وتساقط المئات بين جرحى وقتلى، قبل أن تنفد ذخيرة باروخ ويلقى مصرعه على أيدى المصلين المصابين بالغضب والذهول. ومنذ تلك الحادثة وضعت القوات الإسرائيلية كاميرات داخل المسجد، لتعرف ما يحدث بالداخل، ليكمل دليلنا الفلسطينى بأنه لم يكن أحد يعرف كيف كان يشعر جولدشتاين، هل كان يملؤه الحقد، أم أنه فقد عقله ومشاعره إلى الحد الذى جعله يطلق النار على مصلين عزل؟ لكننا كنا نعرف أن قصة دليلنا التى انتهت معها زيارتنا للمسجد الإبراهيمى نقلتنا إلى أبواب الجحيم التى فتحها جولدشتاين، بينما كنا منذ لحظة مضت فى زيارة قطعة من الجنة.