رئيس أكاديمية الشرطة يوجه رسالة للخريجين: "اجعلوا مصر أمانة في أعناقكم"    عميد "تمريض الإسكندرية" تتفقد قاعات المحاضرات لاستقبال الطلاب الجدد    استقرار نسبي في سوق العملات: الدولار يتراوح بين 48.28 و48.62 جنيه مصري    جهود محلية ناصر ببني سويف في ملفات النظافة والتعديات ومتابعة مستوى الخدمات    حسن نصر الله وحزب الله.. تاريخ المواجهة مع إسرائيل    روسيا: الدفاعات الجوية تسقط 125 طائرة مسيرة أوكرانية فوق عدة مناطق روسية    سلطنة عمان تدعو لوقف القتال في المنطقة ومعالجة الأسباب الجذرية للصراع    شريف عبد الفضيل يكشف أسباب هزيمة الأهلي أمام الزمالك    تحرير 170 محضرًا لمخالفات بالأسواق والمخابز في بني سويف    إصابة 14 شخصا في انقلاب سيارة ميكروباص بقنا    الفنانة شيرين ضيفة برنامج "واحد من الناس" مع عمرو الليثي.. الإثنين    على هامش معرض كتاب "الصحفيين".. غدًا عرض فيلم "الطير المسافر.. بليغ عاشق النغم"    الصحة تنظم برنامجا تأهيليا لأطباء الصدرية بالتعاون مع الجمعية المصرية للشعب الهوائية    بث مباشر.. السيسي يشهد حفل تخرج دفعة جديدة من طلبة أكاديمية الشرطة    الأول على كلية الشرطة 2024: الانضباط مفتاح النجاح    ملازم تحت الاختبار: التحاق شقيقي الأكبر بأكاديمية الشرطة شجعني لاتخاذ الخطوة    استشهاد 3 فلسطينيين في قصف إسرائيلي شمال ووسط قطاع غزة    "أكسيوس": إسرائيل تطلب من الولايات المتحدة ردع إيران بعد اغتيال زعيم حزب الله    الطماطم ب25 جنيهاً.. أسعار الخضروات في الشرقية اليوم الأحد 29 سبتمبر 2024    مباريات اليوم: «ديربي» ريال مدريد وأتلتيكو.. قمة اليونايتد وتوتنهام.. ظهور جديد لمرموش    «جهات التحقيق تدخلت».. شوبير يكشف تطورات جديدة بشأن «سحر مؤمن زكريا»    كلاكيت تانى مرة أهلى وزمالك بالسوبر الإفريقى.. قمة السوبر الإفريقى حملت «المتعة والإثارة» فى ثوب مصرى خالص    ننشر حركة تداول السفن والحاويات والبضائع العامة في ميناء دمياط    "الحوار الوطنى" يستعرض آليات تحويل الدعم العينى لنقدى.. فيديو    إنفوجراف| حالة الطقس المتوقعة غدًا الإثنين 30 سبتمبر    ضبط شاب يصور الفتيات داخل حمام كافيه شهير بطنطا    إصابة 14 شخصا في حادث انقلاب سيارة ميكروباص بقنا    وزير الداخلية يوافق على استبعاد صومالي وأوزباكستاني خارج البلاد    تعرف على الحالة المرورية بشوارع القاهرة والجيزة اليوم    المشدد 10 سنوات لعامل لحيازته مخدرى الحشيش والهيروين بالإسكندرية    وزير الإسكان يؤكد مواصلة حملات إزالة مخالفات البناء والإشغالات بعدة مدن جديدة    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة المصرية في بداية التعاملات    فاتن حمامة وحليم .. ملوك الرومانسية فى مهرجان الإسكندرية السينمائى    وفاة الحاجة فردوس شقيقة أحمد عمر هاشم.. وتشييع الجنازة ظهر اليوم من الزقازيق    إجابات علي جمعة على أسئلة الأطفال الصعبة.. «فين ربنا؟»    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الأحد    استدعاء «التربي» صاحب واقعة العثور على سحر مؤمن زكريا    قرود أفريقية خضراء وخفافيش الفاكهة.. ماذا تعرف عن فيروس ماربورج؟    طبيبة تكشف أفضل الأطعمة للوقاية من الأمراض في الخريف    مسئول أمريكي كبير يرجح قيام إسرائيل بتوغل بري محدود في لبنان    ريهام عبدالغفور تنشر صورة تجمعها بوالدها وتطلب من متابعيها الدعاء له    المندوه: ركلة جزاء الأهلي في السوبر الإفريقي «غير صحيحة»    محمد طارق: السوبر المصري هدف الزمالك المقبل..وشيكابالا الأكثر تتويجا بالألقاب    مصر تسترد قطعا أثرية من أمريكا    داعية إسلامي يضع حلًا دينيًا للتعامل مع ارتفاع الأسعار (فيديو)    خبير يكشف عن السبب الحقيقي لانتشار تطبيقات المراهنات    نشرة ال«توك شو» من «المصري اليوم»: «احترم نفسك أنت في حضرة نادي العظماء».. تعليق ناري من عمرو أديب بعد فوز الزمالك على الأهلي.. أحمد موسى عن مناورات الجيش بالذخيرة الحية: «اللى يفت من حدودنا يموت»    نشوي مصطفي تكشف عن مهنتها قبل دخولها المجال الفني    أمير عزمي: بنتايك مفاجأة الزمالك..والجمهور كلمة السر في التتويج بالسوبر الإفريقي    المنيا تحتفل باليوم العالمي للسياحة تحت شعار «السياحة والسلام»    بعد اغتيال نصر الله.. كيف تكون تحركات يحيى السنوار في غزة؟    لافروف يرفض الدعوات المنادية بوضع بداية جديدة للعلاقات الدولية    احذر من إرهاق نفسك في الأحداث الاجتماعية.. برج القوس اليوم 28 سبتمبر    «التنمية المحلية»: انطلاق الأسبوع التاسع من الخطة التدريبية الجديدة    ورود وهتافات لزيزو وعمر جابر ومنسي فى استقبال لاعبى الزمالك بالمطار بعد حسم السوبر الأفريقي    رؤساء الجامعات يوجهون الطلاب بالمشاركة في الأنشطة لتنمية مهاراتهم    باحثة تحذر من تناول أدوية التنحيف    في اليوم العالمي للمُسنِّين.. الإفتاء: الإسلام وضعهم في مكانة خاصة وحثَّ على رعايتهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تقلبات الحياة فى كولومبو.. بعد حرارة الاستقبال د. صبرى حافظ
نشر في التحرير يوم 18 - 01 - 2014

عرابى طلب من الحاكم الإنجليزى فى سيلان زيادة رواتب العرابيين بعد أن اكتشف غلو الأسعار فى الجزيرة
الرافعى كان أشد المؤرخين المصريين عداءً للثورة العرابية
البرلمان البريطانى ناقش مسألة مرتبات العرابيين لفترة طويلة ولم يتوقف الاهتمام بهم فى لندن
طلب عرابى توفير أماكن لأبنائه وأبناء المنفيين فى مدارس الإنجليز وهو ما أثار استغراب الإنجليز والسيلانيين
الحكومة المصرية وافقت على زيادة الاعتماد المخصص للعرابيين 500 جنيه إسترلينى فى السنة تُوزع عليهم حسب احتياجاتهم
عرابى تقدم بأكثر من شكوى إلى شرطة سيلان بسبب توافد الناس على منزله بشكل كثيف
بريطانيا اتبعت سياسة «فَرِّق تَسُد» بعد أن أقنعت الحكومة المصرية بزيادة رواتب العرابيين وتوزيعها عليهم دون نسب محددة
ينهى عبد الرحمن الرافعى، أشد المؤرخين المصريين عداء للثورة العرابية، كتابه «الزعيم الثائر أحمد عرابى» بفصل أخير عن عرابى فى المنفى يفتتحه ب«أقام عرابى وزملاؤه الستة فى جزيرة سيلان، وكانت حياتهم فى المنفى حياة ألم وحزن وبؤس وشقاء. إذ انقطعت صلتهم بالناس، وطال اغترابهم عن الوطن، وبعدت الشقة بينهم وبين أهلهم وذويهم، ولم يكترث لهم أحد، ولم يعطف عليهم أحد، والناس مع الغالب». وهو تقرير أبعد ما يكون عن الصواب. ليس فقط لأنه مكتوب دون أدنى بحث عما دار لهم فى سيلان، ولا عما خلفوه فيها من آثار باقية حتى اليوم، ولكن أيضا دون أى معرفة بما دار عنهم فى بريطانيا، رغم أن كثيرا من وثائق الإنجليز حول الأمر كانت قد أصبحت متاحة حينما كتب كتابه هذا عن أحمد عرابى. ويبدو أنه استقى رأيه هذا بشأن حياتهم فى المنفى من قراءته لأشعار محمود سامى البارودى فى منفاه، والتى اتسم كثير منها بالحزن ولوعة الفقد والحنين إلى الوطن. كما فى قوله: «شفنى وجدى، وأبلانى السهر/ وتغشتنى سمادير الكدر. فسواد الليل ما إن ينقضى/ وبياض الصبح ما إن يُنتظر. لا أنيس يسمع الشكوى، ولا/ خبر يأتى ولا طيف يمر» أو قوله: «لم تدع صولة الحوادث منى/ غير أشلاء همّة فى ثياب. فجعتنى بوالدىّ وأهلى/ ثم أضحت تكِر فى أترابى. كل يوم يزول عنى حبيب/ يا لقلبى من فرقة الأحباب».
ولا شك فى أن كل العرابيين عانوا من الحنين إلى الوطن بدرجات متفاوتة، وأمضّ النفى القسرى عنه نفوس بعضهم وأضناها، فالمصرى معروف بأنه شديد الالتصاق بوطنه. لكنهم كما تقول لنا المصادر التى كتبت عن حياتهم فى المنفى، لم يمضوا فيه «حياة ألم وحزن وبؤس وشقاء» كما يقول الرافعى، وإنما حياة جد وعمل وانشغال بأمورهم، وأمور الناس فى منفاهم، فقد كانوا جميعا فى سمت الكهولة، أغلبهم فى الثانية والأربعين من العمر، وفى أكثر فترات حياتهم قدرة على العطاء. وكان أبعد ما كتبه الرافعى عن الصواب هو قوله فى مفتتح هذا الفصل «ولم يكترث لهم أحد»، لأننا رأينا كيف أن بيوتهم لم تكف عن استقبال الزوار منذ وفودهم إلى المدينة. وهى ظاهرة مثيرة حقا، لأنها استمرت لزمن طويل، وعلى العكس من توقعات مدير الشرطة عقب وفودهم، من أن الازدحام على زيارتهم سوف ينتهى مع الأيام. فقد كتب فى تقريره الوصفى عنهم بعد تسكينهم فى تلك البيوت الأربعة: «لا شك أن قدوم أحمد عرابى وصحبه من المنفيين المصريين إلى جزيرتنا قد أثار كثيرا من الشغف وحب الاستطلاع بين عديد من المواطنين، حتى قبل وفودهم، وصولا إلى يوم هبوطهم على شواطئنا. ولكنى أظن أن جدة الحدث وإثارته للفضول سرعان ما ستتبدد، وسوف يتحول المنفيون بالتدريج ومع الوقت إلى أناس عاديين لا يثيرون أى انتباه»، لكن تنبؤه هذا لم يتحقق، وتواصل شغف الناس بهم، وتوافدهم على زيارتهم، خصوصا أحمد عرابى باشا، الذى لم يقتصر الاهتمام به على المواطنين السيلانيين، والمسلمين منهم خاصة، ولكنه تحول إلى مركز جذب للأجانب المقيمين فى الجزيرة أو الوافدين إليها. بالصورة التى أدت بعد عدة شهور من زيارات يومية لا تنقطع إلى تقدم عرابى بأكثر من شكوى رسمية إلى الشرطة من إزعاج الناس له، خصوصا بعد أن تحول إلى أحد مراكز اجتذاب الاهتمام فى الجزيرة بعد سلحفاة أبلاند المعمّرة فيها. يفد كل من يزورها إلى بيته فى نوع من الحجيج الغريب، الذى جلب إلى بيته صنوفا متباينة من البشر، من الكونت الروسى بوتورلينى Boutourlini الذى جاء لزيارته مع اللورد جيفورد Gifford لإجراء حوار معه بتكليف من القيصر، إلى فريق الكريكيت الأسترالى الذى وفد بكل لاعبيه إلى بيته لرؤيته.
لكن دعنا نتابع أولا تفاصيل عملية استقرارهم فى الجزيرة، فقد أسفرت أول زيارة لعرابى بعد يومين من هبوطه فى الجزيرة إلى المسجد لصلاة الجمعة يوم 12 يناير 1883، فى مسجد مارادانا «Maradana Mosque» الذى بنى عام 1770 وقبل وفود الإنجليز إلى الجزيرة، عن تزويده بأول مترجم سيلانى يعرف شيئا من العربية، وهو إسماعيل سنى لبّه Ismail Sinne Lebbe، وهو مسلم سيلانى مولود 23 أغسطس عام 1854 (28 ذو القعدة 1270ه)، أى أنه كان فى التاسعة والعشرين من عمره فى ذلك الوقت. وكان تعرفه على هذا المترجم الشاب الذى ينحدر من واحدة من أعرق العائلات المسلمة فى سيريلانكا، مقدمة علاقة مثمرة مع أحد أكبر مثقفى تلك العائلة، وهو سيدى لبّه Siddi Lebbe الذى كان قد عاد من رحلة طويلة إلى بريطانيا بعدد من الأفكار حول تطوير وضع المسلمين فى بلاده، وهى التى ستجد فى شعبية عرابى الجديدة بين المسلمين فى سيلان وسيلة لتحقيقها، لتوافقها مع أفكاره، ومع مشروعه الذى كان يحلم به لمصر. وكانت الحكومة المصرية قد أرسلت مع العرابيين على ظهر الباخرة مترجما قبطيا هو سليم عطا الله، وحامية عسكرية مصرية تحت قيادة ضابط مصرى هو على سالم. وكانا مكلفين فى ما يبدو بكتابة تقرير عن تلك الرحلة عقب عودتهما إلى القاهرة.
وبعد نحو أسبوع، وفى 22 يناير 1883 تحديدا، دعا حاكم الجزيرة سير جيمس دوجلاس العرابيين إلى مكتبه فى بيت الملكة «Queen's House» فى كولومبو لمزيد من التعرف عليهم، وسؤالهم عن أحوالهم وعن طلباتهم. وعما إذا كانوا يريدون الحياة فى كولومبو أم أنهم يرغبون فى الانتقال إلى قلب الجزيرة أى بعيدا عن شواطئها. وهو اللقاء الذى حضره معهم كل من سليم عطا الله وعلى سالم. ولما دار النقاش حول إمكانية الانتقال إلى العيش فى مكان آخر ورد اسم كاندى «Kandy» فى الحديث لأول مرة، باعتبارها المدينة الثانية فى الجزيرة من حيث الحجم، وأنها تقع فى قلب الجزيرة وفى منطقتها الجبلية التى تجعلها أفضل مناخا، حيث تقع على واحدة من أشهر هضابها المستوية. وقد كانت لأكثر من أربعمئة عام العاصمة القديمة للجزيرة حتى غزا الأوروبيون سيلان. وتقرر فى هذا الاجتماع أن يسافر كل من سليم عطا الله وعلى سالم فى اليوم التالى إلى «كاندى» كى يستطلعا أحوالها قبل عودتهما إلى مصر، وطلب منهما المجتمعون أن يقدموا تقريرا عنها بعد عودتهما منها. كى يقرر العرابيون على ضوئه ما إذا كانوا يريدون الانتقال إليها أو البقاء فى كولومبو.
وفى هذا اللقاء طلب أحمد عرابى، الذى كان يتحدث نيابة عن المنفيين وباسمهم، بيتين آخرين: واحد لعبد العال حلمى وأسرته، وآخر لطلبة عصمت وأسرته، فقد كانا يقيمان معه فى «بيت البحيرة». وطلب توفير أماكن لأبنائهم جميعا فى المدارس الإنجليزية فى الجزيرة، وهو الأمر الذى سوف يثير دهشة كل من الإنجليز والسيلانيين، والمسلمين منهم على وجه الخصوص، كما سنرى فى ما بعد. كما طلب أن توفر لهم إدارة الجزيرة طبيبا إنجليزيا يتولى شؤونهم الصحية. وقد اشتكى عرابى فى هذا اللقاء من عدم كفاية المرتبات المخصصة لهم، فى ضوء ما اكتشفوه من أسعار فى الجزيرة. وقد استجاب الحاكم للطلبات الأولى على الفور. فوفر بيتين جديدين: أولهما لعبد العال حلمى وأسرته، والثانى لطلبة عصمت وأسرته، كى يبقى عرابى وحده مع أفراد أسرته فى «بيت البحيرة». كما اتصل على الفور بمدير المدرسة الإنجليزية الرئيسية فى كولمبو، وهى المدرسة الاعتيادية «Normal School» ليسأله عن أماكن لأبنائهم، وأجابه المدير أن ليس بها إلا خمسة أماكن فقط، فالتحق بها أبنا أحمد عرابى، إبراهيم ومحمد، وأبناء طلبة عصمت الثلاثة، أما ابنا عبد العال حلمى فقد التحقا بمدرسة جيرتون «Girton School». أما البنات فقد التحقن جميعهن بالمدرسة الإنجليزية المسيحية «English Christian School» فى كولومبو. وبالنسبة إلى حاجاتهم الطبية والعلاجية عيّن لهم حاكم الجزيرة الدكتور وايت «Dr White» كى يتولى أمورهم الصحية.
أما بالنسبة إلى المسألة المالية، وشكوى عرابى من أن ما خصص لهم من رواتب ليس كافيا بعد اكتشافهم لسعر الصرف وطبيعة الأسعار، فقد أعلن الحاكم سير جون دوجلاس لهم بأن هذه المسألة خارج نطاق اختصاصاته، وبالتالى لا يستطيع أن يتخذ فيها قرارا فوريا كما هو الأمر فى مسألة تعليم الأبناء والبنات أو استئجار أماكن جديدة لسكناهم. وأن الحكومة المصرية قد رتبت مع البنك العثمانى بالإسكندرية عملية تحويل رواتبهم، وأنه يعرف أن المبلغ الذى رتبته لهم يعد مبلغا معقولا إذا ما أخذنا فى الاعتبار المشاعر المعادية لهم فى القاهرة، بسبب ما اقترفوه فى حق مصر وحق الخديو. ولكنه وعد بأن يكتب لحكومته، أى الحكومة الإنجليزية فى هذا الصدد. وحذرهم بواقعية إنجليزية معروفة بأنه بأخذ كل جوانب هذا الموضوع الشائك بعين الاعتبار، فلا بد عليهم من توطين النفس على أن حل هذه المسألة قد يستغرق وقتا طويلا. وأكد لهم مع ذلك اهتمامه الشخصى بهم، وأن أمورهم تهمه دون شك. وأنه بمجرد أن أُعلم بأنهم سيجيئون إلى سيلان أجر لهم بيوتا مناسبة، ووفر لهم حراسة تعمّد أن يختارها من بين المسلمين، وأن وزير المستعمرات فى لندن يعرف كل ما يقوم به من أجلهم ويقدره. وأنه أوصاه بأن يتولى شخصيا كل ما يتعلق براحتهم واستقرارهم فى الجزيرة. (راجع رسالة حاكم سيلان إلى مدير عام وزارة المستعمرات وثيقة SLNA/6/6668 المؤرخة 20 فبراير 1883).
وبعد اتصالات عديدة بين الحاكم ووزارة المستعمرات البريطانية، وبين الخارجية البريطانية والخديو، تعللت الحكومة المصرية بأنها لا تزال مشغولة بحصر ممتلكات المنفيين، وفرز ما يملكونه مما تملكه زوجاتهم، وبيع ما يتأكد لها أنها حصصهم من تلك الممتلكات. وأن الحكومة المصرية لن تستطيع بأى حال من الأحوال البت فى موضوع زيادة رواتبهم حتى تنتهى من هذه المهمة، والتى ستحتاج إلى بعض الوقت لأن ثمة كثيرا من الممتلكات التى اكتشفت الحكومة أنها مملوكة على المشاع بين بعض المنفيين وزوجاتهم. وقد أدى هذا التلكؤ إلى إثارة ويلفريد بلنت لتلك القضية فى الصحافة البريطانية أكثر من مرة، وتقديم أكثر من استجواب حولها فى مجلس العموم البريطانى. حيث قدم السيد لابوشيه Mr Laboucher عضو البرلمان عن مقاطعة نورث هامبتون استجوابا فى هذا الشأن فى شهر فبراير (راجع مضبطة مجلس العموم Hansard، February 1883). ولما تواصل التلكؤ قدم راندولف تشرشل استجوابا آخر رد عليه لورد إدموند فتزموريس Lord Edmond Fitzmaurice بأن عرابى باشا ليس محجوزا فى سيلان كسجين، ولكنه موجود بها بناء على تعهد قطعه على نفسه ووقع عليه وشهد على توقيعه الموثِّق القانوى لجلالة الملكة بالذهاب إلى المكان الذى تحدده له الحكومة المصرية، والبقاء به حتى تدعوه الحكومة المصرية نفسها للعودة. وهو أمر ينطبق على بقية زملائه من المنفيين. وأن أمر الرواتب التى تدفعها لهم تلك الحكومة خارج نطاق سلطة الحكومة البريطانية، لأنه شأن يخص الحكومة المصرية وحدها. لكن حكومة جلالة الملكة تسعى جاهدة للتأثير على الحكومة المصرية لحل هذه المسألة. (راجع مضبطة مجلس العموم Hansard، April، 1883).
وأضاف اللورد فيتزموريس أن سيلان قد اختيرت، بعد مشاورات مع أصدقاء عرابى من البريطانيين، لأنها تبعد عن مصر بالقدر الكافى الذى ترتضيه الحكومة المصرية. وأن المنفيين المصريين يتمتعون فيها بكل الحرية، ويستطيعون الإقامة فى أى مكان فى الجزيرة، شريطة أن يكون تحت مراقبة أعين الشرطة هناك. وهذا هو سبب استثناء المقاطعتين الشرقية والشمالية لتعذر رقابة الشرطة عليها. وأن حاكم الجزيرة سير جون دوجلاس يتولى بنفسه السهر على راحتهم. والواقع أن الاهتمام بالعرابيين فى لندن لم يتوقف. ففى الشهر التالى لوصولهم، وبينما تتواصل المراسلات بشأن مدى كفاية رواتبهم، لضمان حياة كريمة لهم فى سيلان، خصوصا أنه قد حرم عليهم القيام بأية أعمال بها، كتب وزير الخارجية إلى حاكم جزيرة سيلان، طالبا منه أن يسمح للجنرال الإنجليزى المسؤول عن قيادة القوات العسكرية فى سيلان بمقابلة أحمد عرابى، بهدف الحصول منه على بعض المعلومات المتعلقة بما دار فى مصر من معارك. وهو الأمر الذى استجاب له حاكم الجزيرة فدبر هذا اللقاء فى مكتبه، وإن لم يسفر عن الكثير مما له قيمة من حيث المعلومات. أو حتى عملية التأريخ لما دار فى أثناء احتلال بريطانيا لمصر، حسب ما ورد فى وثيقة الخارجية البريطانية (SLNA/4/158 – Despatch No. 69، 21 February 1883) وقتها، ربما بسبب حاجز اللغة، وتعثر الترجمة لغياب سليم عطا الله فى رحلته إلى «كاندى» وقتها، وهى الرحلة التى عاد منها ليلحق بالسفينة العائدة إلى القاهرة بعد أيام من رجوعه. وقبل عودة سليم عطا الله وعلى سالم إلى مصر التقيا ذات ليلة مع أربعة من الزعماء السبعة، كان بينهم محمود سامى البارودى، وقدما لهم فيها تقريرا عن مشاهداتهم فى الرحلة وعن مدينة «كاندى» بصورة رجحا فيها كفة كولومبو عليها فى كل المجالات، خصوصا أن زيارتهما لها كانت فى أواخر يناير والنصف الأول من فبراير، وهى الفترة التى تتعرض فيها المدينة والمنطقة الشرقية برمتها لعواصف «المانسون» الشمالية الشرقية وأمطارها المتواصلة. والواقع أن ضيقهما بأمطار كاندى المستمرة، خصوصا أن كولومبو فى الوقت نفسه تكون أكثر جفافا وأقل مطرا، قد نفّر العرابيين منها، ولم يتبق من وصفهم لها أى أثر إيجابى اللهم ألا فى نفس الشاعر محمود سامى البارودى، الذى يبدو أن حديثهم عن جمال تلالها المتتابعة، وخضرة حدائقها النضرة، ومناظر الطبيعة الخلّابة التى تتمتع بها قد بقى فى ذاكرته، ولذلك كان هو أول من انتقل إليها بعد خمسة أعوام. أى فى عام 1888، وبعد زواجه من كريمة يعقوب سامى باشا.
لكنا دعنا نعود إلى موضوع مرتبات العرابيين، دون القفز عليه والحديث عن انتقال الزعماء إلى كاندى، وهو أمر سيجىء دوره فى حينه، خصوصا أننى تتبعت خطاهم إلى هذه المدينة الجميلة. لأن الجدل الطويل الذى دار حول موضوع المرتبات هذا له دلالاته على ما عاناه العرابيون فى منفاهم، فقد ظلت المناقشة مستمرة بشأنه فى البرلمان البريطانى، وليس فى مصر لمرارة المفارقة وإهمال مصر لثوارها. كما ظلت مثارة فى وزارتى الخارجية والمستعمرات فى بريطانيا، بسبب تتابع رسائل سير جون دوجلاس، حاكم الجزيرة، فى هذا الشأن، وإلحاحه على حل تلك المسألة. وهو الأمر الذى استطاعت الحكومة البريطانية حله حينما أبلغ اللورد جرانفيل معتمده فى مصر، لورد كرومر، بأن يأمر الخديو بحله، وكان حل هذا الأمر مدعاة سرور اللورد فيتزموريس، وهو يعلن فى مجلس العموم البريطانى ردا على استجواب جديد من لابوشيه، عضو مجلس العموم عن نورثهامبتون، أن الحكومة المصرية قد وافقت على زيادة الاعتماد المخصص لهذا الأمر بما يعادل خمسمئة جنيه إسترلينى فى السنة، توزع على المنفيين حسب حاجاتهم، وأن أوامر حكومة جلالة الملكة قد صدرت إلى حاكم الجزيرة بتوزيع هذا الاعتماد الإضافى بينهم طبقا لحاجاتهم، خصوصا أحمد عرابى باشا الذى يبدو أنه أفقرهم. (راجع مضبطة مجلس العموم Hansard، July 1883). وهو الأمر الذى أتاح لبريطانيا أن تصطاد عصفورين بحجر واحد. أن تبيض ساحتها أمام أعضاء مجلس العموم من منتقديها من ناحية، وأن تبدأ سياستها العتيدة «فَرِّق تَسُد» عن طريق التحكم فى توزيع الاعتمادات الإضافية «طبقا لحاجة كل منهم»، واستخدامها فى التمييز بين الزعماء، وزرع بذور الشقاق بينهم كما سنرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.