أصدر الكاتب المغربى نور الدين محقق فى خضم هذه السنة (2013) رواية جديدة منحها عنوان «إنها باريس يا عزيزتى». وهو عنوان يتماشى موضوعيا مع الفضاء السائد فيها والمشكل لأحداثها التى تحضر بقوة فى فضاء مدينة باريس تحديدا بعد انتقالها مباشرة من فضاء مدينة كازابلانكا. تنطلق رواية «إنها باريس يا عزيزتى» من رحاب «الفيسبوك» لتغوص فى رحاب الحياة. العلاقات فيها تبدأ بشكل افتراضى لكنها تنتهى على أرض الواقع. وبين هذا وذاك تتشعب المصائر وتتعدد الاحتمالات، بحيث يأخذ المجرى السردى تشعباته وانعراجاته من خلال هذا التنوع. أما لعبة الحب فهى مبنية على ثنائية المد والجزر بين الرجل والمرأة فيها، وذلك عمل آخر ينبنى على غنى الشخصيات الأنثوية فيها بالخصوص، فالمرأة هنا ملمة بالآداب والفنون وعاشقة لكل ما هو جميل فى الحياة، أما الرجل فيها فيغلب عليه طابع الأنانية والرغبة فى الامتلاك.. امتلاك الأنثى.. الرواية تنحو منحى البوليفونية فى طريقة البناء السردى وتشييد الأصوات، وهى كتبت بشكل انسيابى ممتع، يجعل المتلقى يغوص فى عوالمها بلذة. الرواية باختصار هى رواية الصورة المركبة والبناء المحكم.. يتحدث الكاتب نور الدين محقق أو لنقل السارد النائب عنه فى هذه الرواية عن سيرة رجل مثقف فى علاقته بذاته من جهة وفى علاقته بالمرأة من جهة أخرى. هذه المرأة الثلاثية الأبعاد التى تتجلى فى المرأة الشابة وفى المرأة المهاجرة وفى المرأة الأوروبية. وهو فى هذه السيرة الروائية لهذا الرجل، يبحث عن ذات هذا البطل المثقف وعن كينونته وجودا وتفكيرا، خصوصا أن هؤلاء النسوة الثلاث اللواتى شكلن محور اهتمام البطل، يتوحدن فى مرآة الثقافة رغم اختلاف نظرتهن إليها وبالتالى إلى العالم المحيط بهن انطلاقا منها. فى هذه الرواية ومن خلال هذه العلائق المتشابكة يوظف الكاتب نور الدين محقق تناصا جميلا ومثمرا مع بعض أهم الكتب العربية التراثية، حيث يستحضر داخل هذا النص الروائى كتاب «طوق الحمامة» للفيلسوف ابن حزم الأندلسى، حين يصف السارد تقبلات البطل النفسية اعتمادا عليها، محللا من خلال ما ورد فى هذا الكتاب التراثى العظيم علامات الحب التى ظهر على هذا البطل وهو يرى صور معشوقته تتراءى أمامه على شاشة الكميبوتر. كما استحضر الكاتب أيضا ودائما داخل لعبة التناص المعلن عنه كتابا آخر هو كتاب «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» للعلامة الطهطاوى، لا سيما فى وصفه لأهل باريس وللحسناوات الباريسيات، دون أن ينسى استحضار كتاب «الروض العاطر» للعلامة الشيخ محمد النفزاوى، حين تحدث عن منظور الجنس عند العرب، وهو ما جعل من هذه الرواية تجمع بين رواية الحب ورواية الثقافة ورواية الصورة فى بوتقة متكاملة. الرواية إضافة إلى ذلك تجوب فضاء مدينة باريس طولا وعرضا وتصف أهم المعالم الثقافية الموجودة فى هذا الفضاء بكثير من الشغف وبعين سينمائية حاذقة، مما يجعل من هذه الرواية تشكل رواية الصورة بامتياز. فالبطل وهو يلتقى بنسائه الثلاث، كل واحدة منهن على حدة، فى فضاء هذه المدينة يعيش حياة ملأى بالحب وبالفنون والآداب فى تكامل هو جدير بمثقف يسعى لتمثل العالم وفق رؤية متسامحة وداخل فضاء مدينة أوروبية فاتنة. لا تقف الرواية عند هذا الحد، فهى تغوص فى عملية تشريح الشخصيات والبحث فى أعماقها بطريقة فنية محكمة الصنع، كما أنها من خلال ذلك تقدم صورة متميزة للحياة الإنسانية فى تعقداتها وتشابكاتها التى لا تنتهى إلا لتبدأ من جديد. فالرواية تصور عالما مليئا بالتشويق المبنى على رؤية متكاملة للفن الروائى سواء من حيث قوة الموضوع المطروح أو من حيث الصياغة الفنية له، بحيث يتم تقديم موضوع العلاقات الإنسانية المتمثلة بالخصوص فى الرغبة فى الشىء وفى الرغبة عنه. فى تقديم الحب وفى تصويره دقائقه النفسية، فى طرح علاقة الشرق بالغرب فى إطار تخيلى ممتع وعميق فى ذات الآن، وذلك بطريقة سردية تعتمد على التصوير الخارجى للفضاء والتصوير الداخلى لعلاقات هذا الفضاء بنفسية الشخصيات، وعلى رؤية مشهدية دقيقة تضبط الحركات والسكنات كما هو الحال فى المجال السينمائى. إن هذه الرواية وهى تقوم بكل ذلك سعت مع الحرص على حفاظها على العمق إلى استخدام لغة سردية انسيابية جميلة تتميز بالسهولة، لكنها تلك السهولة الممتنعة التى تحمل عمقا بين شرايينها وتقدم العالم الروائى بكثير من الجمالية، وهو ما جعل من هذه الرواية إضافة نوعية للفن الروائى العربى فى مرحلته المتميزة هاته وفى تعددية اتجاهاته الفنية مشرقا ومغربا.