لا ريب في أن اسم نجيب محفوظ سيظل يتردد بمناسبة وبدون مناسبة لعقود طويلة مقبلة، فاليوم ذكرى ميلاده، وغدًا ذكرى رحيله، وبعد غد ذكرى حصوله على نوبل، وبعد بعد غد الذكرى المشؤومة للاعتداء عليه... والأسبوع المقبل تمر 69 عامًا على اشتغاله بالسينما، وهكذا، فالرجل صار أيقونة مصرية عابرة للقرون بامتياز، ولا أشك في أنه سيصبح مثل المتنبي في أدبنا العربي وشكسبير في الأدب العالمي... اسم ناصع... مشرق... كلما اطلعت على رواياته انفتح لك باب جديد، ومع ذلك لم نستطع في مصر أن نعي معنى أن يكون بيننا مبدع عالمي بامتياز، تتنافس الدول الكبرى والصغرى على دراسة نصوصه واكتشاف مواهبه، ولك أن تعلم أن بعض رواياته مقررة على طلاب المدارس الثانوية في أمريكا على سبيل المثال! أجل... مرت عشرة أعوام على رحيل الرجل، ولم ندرك بعد القيمة الكبرى لنجيب محفوظ، فلم ننشئ له متحفا يليق به كما قررت الحكومة عقب وفاته مباشرة في 30 أغسطس 2006، ولم نشيد له عدة تماثيل في أكثر من مدينة مصرية، واكتفينا بتمثال يتيم وضعناه في ميدان سفنكس بشكل غير لائق، فلم يلتفت إليه أحد. أما كتابة السيرة الذاتية للرجل، فتبدو كحلم مراوغ يستحيل الإمساك به، رغم أن العظماء في العالم تمتعوا بإقدادم باحثين جادين على كتابة سيرهم الذاتية بعد رحيلهم، سواء انتمى هؤلاء العظماء إلى عالم السياسة والعسكرية، أو إلى عالم الأدب والعلم، لكن في بلدنا، لا نعرف القيمة الكبرى لكتابة سيرة ذاتية للموهوبين، رغم أنها المحاولة الجادة المهمة لاكتشاف سر العبقرية من جهة، ولأنها تلهم الأجيال الجديدة ليجتهدوا ويبتكروا ويكدوا لينالوا المجد الذي ناله صاحب السيرة من جهة أخرى. لا تقل لي إن سيرة الرجل منثورة في رواياته وقصصه بشكل غير مباشر، ذلك أن كتابة سيرة ذاتية بطريقة علمية حديثة تستلزم أمورًا أخرى، فعلى سبيل المثال... يجب الإلمام بالأجواء العامة التي ولد فيها صاحب السيرة، والمناخ الأسري الذي نشأ في ربوعه، وطبيعة علاقاته وهو طفل وصبي مع أسرته وأقرانه وأساتذته، ثم زوجته وأبنائه، وقراءاته التي تأثر بها، ومغامراته في الحب ومواقفه السياسية، ومدى انشغاله بالعمل العام، والأجواء التي صدرت فيها أعماله، وردود الأفعال عليها، وصراعاته وإحباطاته، ثم نهوضه من جديد، فضلا عن لقاءاته في الإعلام، وتصريحاته وموقفه من الأنظمة الحاكمة إلى آخره. أرأيت؟ إنه جهد جبار خاصة وأن نجيب محفوظ عاش طويلا (مولود في 11 ديسمبر 1911)، الأمر الذي يستلزم بحثا مضنيا يمتد لأكثر من قرن من الزمان. من أهم وأفضل كتب السيرة التي قرأتها ثلك التي تناولت حياة المفكر والثوري الروسي ليون تروتسكي (1879/ 1940)، والتي كتبها بلغة مدهشة إسحق دويتشر في ثلاثة أجزاء ضخمة تحت عنوان (النبي المسلح)، (النبي الأعزل)، و(النبي المنبوذ)، وفيها تكتشف علوم كتابة السيرة الذاتية وفنونها، وكيف تصبح السيرة مرجعًا مذهلا لعصر كامل. من أسف... رغم أننا نملك نحو 100 شخصية متميزة جدًا أضاءت القرن العشرين في المجالات كافة، إلا أننا لم نهتم بكتابة سيرة علمية حقيقية لأي منهم، وها نحن نعامل نجيب محفوظ العظيم بكل إهمال واستخفاف، على الرغم من أن كثيرًا من الذين تعاملوا معه وعاصروه مازلوا أحياء يمكن الاستفادة منهم في كتابة سيرة متميزة للرجل. هكذا إذن... تمر عشرة أعوام على رحيل صاحب نوبل 1988، فلا تهتم به الدولة كما ينبغي، ولا ينتبه الباحثون الجادون إلى ضرورة كتابة سيرة ذاتية للرجل الأكثر فرادة في تاريخنا الإبداعي طوال ألفي عام. سامحنا يا أستاذ نجيب!