على الرغم من التناقضات الملموسة في العلاقات بين كل من روسياوإيران وتركيا، فإن خطًّا جديدًا في سياسة الدول الثلاث يتشكل بخطى واثقة وسريعة. هذا الخط يتمحور حول شكل من أشكال التعاون قائم في الأساس على تجنب التناقضات بين هذه الأطراف الثلاثة، وينطلق من تناقضات الموقفين الإقليمي والدولي. لقد ظهرت جملة من التصريحات المهمة من الطرفين الروسي والإيراني تشير إلى وجود تنسيق حثيث لتوسيع جبهة مكافحة الإرهاب على الأرض في سوريا، كما تصف ذلك كل من موسكو وطهران. وبطبيعة الحال، فالمسألة لا تتعلق بمكافحة الإرهاب فقط، وإنما بترتيبات أمنية واقتصادية، تحسبًا لتحولات غير عادية قد تتعدى سوريا والأزمة السورية. وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو أعلن الاثنين 15 أغسطس الحالي بأن روسياوالولاياتالمتحدة تقتربان من إيجاد صيغة ستسمح بإعادة السلام إلى حلب. وقال "إننا دخلنا مرحلة نشطة من المفاوضات مع الشركاء الأمريكيين في جنيف وعمان، كما أننا على اتصال دائم مع واشنطن.. ونحن نقترب خطوة بعد أخرى من صيغة، وأنا أتحدث هناك فقط عن حلب حصرًا، ستسمح لنا بأن نبدأ العمل معًا من أجل استعادة السلام على هذه الأرض، لكي يتمكن الناس من العودة إلى بيوتهم". ونلقفت وسائل الإعلام هذا التصريح، لتحوله إلى أن شويجو قال "إننا نقترب مع الولاياتالمتحدة إلى تنسيق عملية عسكرية في حلب". ويبدو أن هذا التحريف راقَ لجميع الأطراف، بما فيها موسكو وطهران ودمشق. ولكن سرعان ما أعلنت واشنطن أنها لم تتوصل مع موسكو إلى أي شيء بخصوص حلب. بعد يوم واحد من تصريح شويجو الملتبس، أكدت وزارة الدفاع الروسية أن قاذفات "تو – 22 إم3" و"سو - 34"، التابعة للقوات الجوية الفضائية الروسية انطلقت من مطار همدان في إيران مستهدفة مواقع لتنظيمي "داعش" و"جبهة النصرة" الإرهابيين في سوريا (في محافظات حلب ودير الزور وإدلب). ونجحت في تدمير 5 مستودعات كبيرة للأسلحة والذخائر والوقود، ومعسكرات تدريب للإرهابيين في مناطق سراقب والباب وحلب ودير الزور، إضافة إلى 3 مراكز قيادة للمسلحين في مناطق مدن الجفرة ودير الزور. وفي نفس يوم الثلاثاء 16 أغسطس الحالي أعلن على شمخاني أمين مجلس الأمن القومي الإيراني عن وجود تعاون استراتيجي بين موسكو وطهران لمكافحة الإرهاب في سوريا، وأن البلدين يتبادلان الإمكانيات والقدرات في هذا المجال، مشددًا على بدء عمليات جديدة واسعة النطاق ضد الإرهاب. وهذا التصريح أيضًا تم تلقفه بشكل مغاير تمامًا، حيث ركزت وسائل الإعلام الروسية، في المقام الأول، على أن شمخاني قال إن إيران فتحت قواعدها العسكرية لروسيا. ما دعا رئيس مجلس الشورى الإيراني على لاريجاني إلى التأكيد على أن إيران لم ولن تمنح روسيا أي قواعد، وأن بلاده تتعاون مع روسيا في جوانب كثيرة مهمة واستراتيجية. هذا المشهد العملياتي على الأرض يعكس طبيعة العلاقات الروسية -الإيرانية من جهة، وجملة المحاور التي يمكن أن يتفق عليها الطرفان الروسي والإيراني. وإذا أضفنا الطرف التركي، فسوف نصل إلى تصريحات موسكووأنقرة حول إمكانية التنسيق في عدد من البنود التي تجنِّب الطرفين الروسي والتركي أي مشكلات أو خلافات، وتساعد على سلامة الطيران في الأجواء السورية وحولها. وهذا انطلاقًا من تماس لرؤية البلدين في عنصرين مهمين للغاية: الحفاظ على وحدة أراضي سوريا وتركيا، وضرورة الوصول إلى صيغة تساعد على تسوية الأزمة السورية سياسيًّا. إضافة إلى تأمين الحدود التركية السورية كجزء من الاتفاقات التي توصل إليها الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في لقائهما في مدينة سان بطرسبورج. ولكي يكتمل المشهد العملياتي في سوريا وحولها، كانت زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى أنقرة التي مثَّلَت نقلة نوعية ليس فقط في علاقات إيران وتركيا، وإنما اختبار لخطوات قد تكتمل في مرحلة لاحقة في إطار مشهد التنسيق والتعاون بين موسكو وطهران وأنقرة. وقد اتفق الجانبان أيضًا على "ضرورة التنسيق" في اتجاه مكافحة الإرهاب، والتركيز على تسوية الأزمة السورية سياسيًّا. ولكن يبدو أن الأمور تتحرك إلى أبعد من ذلك. هذا المشهد، في حقيقة الأمر، لا يزال في طور البلورة. وهو في الوقت نفسه ليس خافيًا أو بعيدًا عن متابعة الولاياتالمتحدة ودول التحالف بقيادة واشنطن، وليس بعيدًا أيضًا عن أعين ومشاهدات بعض القوى الإقليمية الأخرى، التي لا تزال تحاول حل "المعضلة التركية" بعد عودة المياه إلى مجاريها بين موسكووأنقرة، ومحاولة التنبؤ بمصير العلاقات التركية-السعودية، والتركية-الأمريكية. والمهم هنا، في الحقيقة، هو الولاياتالمتحدة. فمن الواضح أن ما يجري عمومًا ليس بعيدًا عنها، بل ومن الممكن أن نشهد نشاطًا أمريكيًّا مفاجئًا في هذا المشهد العام، خصوصًا أن نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوجدانوف قام بجولة مكوكية في الشرق الأوسط لإجراء مباحثات مكثفة في إيران وقطر والأردن والسعودية، والتقى قادة حركة حماس في الدوحة، وبعض أطياف المعارضة السورية في الدوحة أيضًا. من الواضح أن روسيا تركز على إيران وتركيا، مما يعطي انطباعًا بأن موسكو إما تحاول الاستغناء عن المعادلة العربية أو في أحسن الأحوال تهميشها من جهة، وإما تحاول استخدام الورقتين الإيرانية والتركية من جهة أخرى للضغط على أطراف عربية بعينها، وجرها إلى الساحة الروسية، مستغلة بعض التناقضات في علاقات هذه الأطراف بالولاياتالمتحدة، أو بعضها ببعض.