لا يحتاج الأمر إلى خبير اقتصادي لإدراك أننا نواجه أزمة شديدة الخطورة، وأننا عمليًّا مفلسون، لأن الاحتياطي النقدي لا يكفي لاستيراد كل احتياجاتنا من الوقود والطعام سوى لثلاثة أو أربعة أشهور على أقصى تقدير. ووفقًا لرئيس الوزراء، فنحن نستورد فقط مواد نفطية بمليار دولار شهريًّا (11 مليار جنيه أو 12 مليارًا، على حسب تقديرك لسعر الصرف)، هذا عدا القمح وكل الأطعمة الأساسية كالزيت والسكر، وكذلك مستلزمات إنتاج مصانعنا المتوقفة عن العمل بسبب عدم القدرة على توفير المواد الخام في ضوء الارتفاع الجنوني في سعر الدولار وتوقف إمدادات الغاز الحكومي. ورغم كل الكلام الحكومي المعسول، فإن الحقيقة هي أن المسئولين عن اقتصاد هذا البلد يديرونه بسياسة اليوم بيوم، ومنطق "احييني النهارده، وموتني بكرة". وكانت هذه نفس سياسة الرئيس المخلوع مبارك، التي كان أساسها الصفقات والفساد والنهب والعمولات من دون الاهتمام مطلقًا بتحسين مستوى معيشة الغالبية العظمى من المواطنين الغارقين في الفقر والمرض والجهل. ولكن ما يزيد الوضع سوءًا، هو أن دخل مصر في سنوات حكم المخلوع كان أفضل كثيرًا مما هو عليه الآن في ضوء تدهور السياحة بنسبة تتراوح بين سبعين وثمانين في المائة، والتراجع الحاد في تحويلات المصريين في الخارج وانعدام الاستثمارات الخارجية، وعدم تحقيق قناة السويس الموازية التي كلفت ميزانية الدولة المليارات أي زيادة في العائد سوى رفع المعنويات لعدة أسابيع، بينما غنينا نحن "دي قناة مصرية بإيدين مصرية". وبمناسبة الأغنية، فلقد تقابلت صدفة الأسبوع الماضي مع سفير دولة أوروبية كان على وشك مغادرة مصر لانتهاء مدته، وقال لي إنه يعتبر أن أحد أهم إنجازاته أنه فور أن علم بقرار الرئيس السيسي حفر القناة الموازية في عام رغم تقدير دراسات الجدوى أن الأمر يحتاج إلى خمس سنوات يمكن اختصارها لثلاث، ذهب لرئيس الوزراء في ذلك الوقت، إبراهيم محلب، وأقنعه باستخدام خبرات الشركات الأجنبية في بلاده للمساعدة في الحفر. وعندما أخبرته بأغنية "دي قناة مصرية بإيدين مصرية"، ارتبك بعض الشيء، ولكنه اعترف أنه كانت هناك رغبة واضحة من قبل المسئولين المصريين في عدم إبراز مشاركة شركات بلاده في الحفر. وأضاف أنه في حفل الافتتاح، تم احتجاز مسئولي تلك الشركة الأوروبية في خيمة بعيدة عن الاحتفال الرسمي، تمامًا كما العمال المصريين والضيوف غير المهمين. وأكد السفير الأوربي أن المشروع لم يكن بالقطع مصريًّا خالصًا كما فرحنا وهللنا، بل شاركت فيه شركات "رويال بوسكاليس ويستمينستر" و"فان أوورد" من هولندا، و"مجموعة يان دي نول" و"مجموعة ديم" من بلجيكا، وشركات "جريت ليكس دريدج" و"دوك كومباني" ومقرهما الولاياتالمتحدةالأمريكية. ومن أجل تنفيذ توجيهات الرئيس بإنهاء الحفر في العام، تم استقدام آلات الحفر من كل أرجاء العالم في أوروبا وآسيا وحتى من أمريكا اللاتينية. ويبقى السؤال الرئيسي الذي لا يمكن تجنبه: كيف يمكن لبلد يعاني من مثل هذه الأزمة الاقتصادية الحادة أن ينفق بكل هذا البذخ؟ والأمر هنا لا يتعلق بقناة السويس الموازية فقط، ولكن بسلسلة المشاريع المسماة "بالقومية" الضخمة، التي يأمل الرئيس السيسي كسابقيه أن تمثل علامات بارزة تميز فترة حكمه كأهرامات الفراعنة، أو لتماثل على الأقل مشاريع النهضة في عصر عبد الناصر كالسد العالي والمصانع الضخمة للحديد والصلب وغيرهما. ومن ضمن المشاريع التي انتقدها الكثير من الخبراء، ولكن الرئيس السيسي مصمم على المضي قدما فيها، مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، والتوسع في سياسة استصلاح الأراضي الصحراوية، وبناء المساكن، بينما البلد لا يدخله استثمارات تسمح بخلق فرص عمل لكي يستطيع الشباب شراء المساكن. كما لا يستطيع أي عقل أن يفهم كيف تكون مصر قد أفلست وتعيش على السلف والدين، بينما يواصل النظام شراء أسلحة لا أول لها ولا آخر، من رافال وميسترال وغواصات وطائرات روسية. طبعا نحتاج إلى دعم العالم الخارجي، ولكن هل يكون ثمن الحصول على هذا الدعم الفرنسي والألماني والروسي هو إنفاق مليارات الدولارات؟ وهل يعقل أن يكون من يعيشون تحت خط الفقر قد زادت نسبتهم حتى 27 في المائة، ثم نذهب نحن لتوقيع اتفاقية لبناء محطة الضبعة النووية مع روسيا بقرض قيمته 25 مليار دولار؟ ولكن يبقى أحد أخطر الجوانب في السياسة الاقتصادية الحالية وهو التوسع في الاقتراض الخارجي، ليس لتحسين مستوى معيشة المواطنين أو لتلبية الاحتياجات الأساسية في التعليم والصحة، ولكن غالبًا لسداد أقساط الديون وتمويل هذه المشاريع العملاقة. وطالما أن حكومتنا السنية تفكر بهذه الطريقة، فلن تنتعش ولو بأدنى درجة مستوى معيشة الغالبية العظمى من المواطنين، بل ستزيد معاناتهم ونداءات الرئيس لنا بالصبر والسلوان وتحمل الضغوط لأننا في معركة لبناء الدولة، رغم وعوده السابقة قبل ترشحه أن الأوضاع ستتحسن بعد عامين من توليه منصبه. يعلم القائمون في الحكومة على شئون الاقتصاد أن العالم الخارجي ودول الجوار النفطية الغنية لن تسمح بانهيار مصر، ليس حبًّا فيها بالطبع، ولكن لأن الأوروبيين والأمريكيين لديهم ما يكفي من الحروب والبلدان المنهارة في المنطقة. وإذا كان العالم المتقدم قد ضج من ملايين اللاجئين القادمين من سوريا، فماذا سيفعل في مواجهة تسعين مليون لاجئ محتمل من مصر؟ لذلك تعتمد الحكومة سياسة اقتصاد اليوم بيوم، واقتراض مليار دولار لدفع فوائد ديون مليارات أخرى، ولا عزاء للفقراء من المصريين، وتحديدًا من يعيشون تحت خط الفقر والذين تتزايد أعدادهم يوميًّا.