التاريخ العربى الإسلامى لم يقدم نموذجا بديلا من الديمقراطية.. وتطبيق الشورى والمساواة والعدل كان وهمًا وربما افتراضيا لا يمكن بأى حال من الأحوال أن يجد الكذب والتدليس وقلب الحقائق واختلاق الشائعات، أى صدى أو أن يحظى بإيمان أعمى، إلا فى صفوف التنظيمات والكيانات الفاشية المغلقة، أو بين من يمكن أن يطلق عليهم (بالمعنى الحرفى للكلمة، لا بمدلولها الذى ينطوى على نوع من التجريح) الجهلاء من أصحاب المعرفة «الصفرية» أو الثقافة الضحلة. تلك كانت استراتيجية جماعة السمع والطاعة الإخوانية، منذ تأسيسها على يد الشيخ حسن البنا فى أواخر عشرينيات القرن الماضى، فى انتقاء أفرادها. الجماعة دوما حريصة على السيطرة على البسطاء، ممن نالوا قسطا ضئيلا من التعليم والمعرفة، جراء ظروف اقتصادية صعبة، ومن ثم لا يجدون غير التدين عزاء لحياتهم المريرة، أو كانوا منحدرين من قرى ونجوع وربما أحياء بعيدة عن مراكز النشاط الفكرى والسياسى المفتوح، التى يستأثر بها عادة قلب العاصمة والمدن الكبرى، وكذا أحياؤها الوسيطة والراقية، ومن ثم يسهل «غسل أدمغتهم»، وتوجيهها لتحقيق مطامع الإخوان فى السلطة، والمغلفة بمزاعم عن الدعوة لصحيح الإسلام ونصرته وتطبيق شريعته. وعلى كثرة أصحاب الشهادات العليا أو التفوق العلمى والمهنيين، أو حتى المنتمين لطبقات عليا اقتصاديا، فى الجسد الإخوانى، إلا أن انخراطهم فيه، لم يكن ليحدث إلا بشروط، أهمها على الأطلاق، الاستعداد الفطرى للانقياد تحت مبرر أخلاقى أو دينى، فضلا عن توافر خواء معرفى، إلا من المعرفة الأكاديمية والفنية التى يتخصصون فيها، وبالتالى يسهل تلقينهم ما يمكن أن يطلق عليه «الإسلام الإخوانى، والرؤية السياسية الإخوانية، والرؤية الأخلاقية الإخوانية». وعليه يستوى البسطاء مع أصحاب المعارف فى الإخوان. الجميع فى الانغلاق والإذعان وتقديس القيادات سواء. وهو ما يفسر سر انصياع معتصمى النهضة ورابعة العداوية، ومن على شاكلتهم، وعلى مختلف مستوياتهم العلمية والمالية والاجتماعية، لأكاذيب القيادات من فوق منصات التحريض على الدم والقتل والعنف والفساد. بينما تبقى مهمة إزالة الغشاوة عن أعينهم صعبة للغاية، لكنها غير مستحيلة، بشرط ألا تنحصر فقط فى محاولات الإصلاح الداخلية للتنظيم الحديد، الذى بات أكثر صلابة على وقع فقه المظلوميات والتضحية والاضطهاد، وإنما أيضا من خلال دفع الإخوان، ومن بعدهم كل التيارات الإسلامية والسلفية، بما فيها الجهادية، أو التى تنتهج خط التغيير بالسلاح، للدخول فى قلب نظام ديمقراطى حقيقى، يحقق لهم الاحتكاك بالواقع من دون الانفصال عنه، ويجبرهم على العلنية وتوديع السرية والتقية، وعلى عدم خلط الدينى بالسياسى، ويمنعهم من تحويل كل منافسة سياسية، إلى غزوة دينية، فى حين يطرح أمامهم تفسيرات مغايرة أكثر رحابة ووسيطة وسماحة للنصوص الدينية وقضايها الفقهية. الدكتور مخلوف عامر، ينتهج زاوية قريبة من الطرح السابق فى كتابه الجديد «الدولة الإسلامية واقع تاريخى أم نموذج وهمى»، الصادر مؤخرا عن دار العين، إذ يقول بلا مواربة، إنه لا مخرج ينتشل المجتمعات من مستنقع التخلف والغيبيات والخرافات والفساد إلا بالحسْم فى اتجاه ديمقراطى. على اعتبار أن ذلك الحسم كفيل بأن يخلص الدين من الاستعمال السياسى، فلا يبقى سلاح فى أيدى الأصولية ولا متكأ للنظام أيضا. الولوج إلى الديمقراطية حسب مخلوف يمكّن بلا شك من تحرير الدين من مستنقع التدنيس، ليرقى إلى أفق التقديس. فإما الديمقراطية وإما الشريعة، «إذ أن كل مسعً توفيقى بينهما لا يزيد الوضع إلا انتكاسا وتدهورا». المؤلف يذهب بعيدا فى كتابه، بشكل قد يصدم كل الحالمين بنموذج حكم إسلامى، سواء من البسطاء أو من غيرهم، أو من يساندون الإخوان والإسلاميين فى حربهم الضروس ضد الشعب المصرى بعد عزل محمد مرسى وجماعته من حكم مصر، بدعوى حماية الإسلام والجهاد ضد أعدائه، حيث يقطع بأن التاريخ العربى الإسلامى لم يقدم نموذجا بديلا عن الديمقراطية. بكلام آخر لم يقدم دولة مؤسسات حقيقية، فقط انتهجت بعض المبادئ العامة والفضفاضة، عن الشورى والمساواة والعدل، من دون تطبيق أصيل كما ينبغى، وما دون ذلك كان وهما وربما افتراضيا.