أثار تقرير لجنة "شيلكوت" الكثير من اللغط في أوساط الرأي العام، واستقبلته الأوساط الإعلامية والصحفية بحفاوة منقطعة النظير لتؤكد أن القيم الغربية لا تصلح أبدا للشرق "السعيد"، واستغله أنصار السكون والاستبداد ليضعوا القارئ والمشاهد والمتلقي أمام خيار: الاستبداد أو الإرهاب، سواء كان ذلك استبداد باسم الدين أو باسم الوطن. وتلقاه ساسة ووزارات خارجية ورؤساء دول كطوق نجاة من أجل تبرير سياسات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها سياسات عرجاء، بل وذهبوا إلى تبرير سياساتهم تجاه شعوبهم وتجاه الشعوب الأخرى. بعد سبع سنوات تقريبا ظهر تقرير "شيلكوت" ليؤكد على انتحار المنطق، وأن الغلبة للمنتصر مهما كانت جرائمه. ولكن المنطق لا يزال يؤكد أن الجريمة لا تجب الجريمة. وأن جورج بوش الابن وتوني بلير لا يختلفان كثيرا عن صدام حسين نفسه، ولا عن زعماء كثيرين حكموا، وما زالوا يحكمون دولا عربية. لقد اعترف قادة الولايات الذين قادوا عمليات غزو العراق واحتلاله بأخطائهم وبأن الأسباب التي انطلقوا منها واعتمدوا عليها في إقناع العالم لم تكن موجودة أصلا. واعترف أيضا رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بنفس الأخطاء. ومع ذلك فالجانبان يجمعان مع حلفائهما، على أن الغزو والاحتلال كانا أيضا بسبب غطرسة صدام حسين، ومن أجل حماية الأقليات، وأن العراق أصبح أفضل بدون صدام حسين. إن تقرير "شيلكوت" ظهر بعد أن تغيرت مياه كثيرة في النهر وانهارت دولة العراق ولحقت بها دول أخرى، بينما دول ثالثة في انتظار مصيرها. والسبب بسيط للغاية: الأسباب المعلنة ليست الأسباب الحقيقية، سواء لإسقاط الأنظمة أو تدمير الدول، أو حتى مكافحة الإرهاب. وبالتالي، تتوالى الأسئلة تلقائيا: لماذا صدام حسين، بينما كان العالم العربي ملئ بالمستبدين؟ لماذا صدام حسين، وكان الأسد الأب يسير على نفس النهج في سوريا، وعلي زين العابدين في تونس ومبارك في مصر، وعلي صالح في اليمن، والقذافي في ليبيا؟ لماذا صدام حسين وكل الدول العربية من المحيط إلى الخليج تعاني من مشاكل مشابهة بدرجة أو بأخرى لمشاكل عراق صدام حسين؟ إن تصديق الاعتذار الجزئي لتوني بلير، والاعتذارات المبتورة للعسكريين والساسة الغربيين، مجرد عملية دفن الرأس في الرمال كعادة المجتمعات المقموعة، وكعادة الساسة التابعين والذيليين من أجل تبرير استبدادهم وقسوتهم واستهتارهم. ولكن الترويج لها والتبرير، أو حتى الانتقاد والشجب والرفض، كلها وسائل تمنح مستبدين آخرين ما زالوا موجودين، قبلة الحياة لتبرير وجودهم وتدمير دولهم وشعوبهم. بل ووصلن "الوقاحة" ببعض الأنظمة العربية الحالية إلى أنهم يعتمدون على الضجة المُثَارة حول بلير لإثبات أنهم على حق، ويضعون شعوبهم أمام خيار: إما نحن أو الإرهاب.. إما نحن أو الغزو!! أن السيد بلير تحدث بعيون دامعه عن مئة وسبعين جنديا بريطانيا قتلوا في تلك العمليات، بينما تجاهل تماما عشرات الآلاف من العراقيين الأبرياء والعزل (أطفال ونساء وكبار السن وشباب) الذين راحوا ضحية الغزو والاحتلال، والآلاف الذين راحوا أيضا بنتيجة تداعيات ما بعد الغزو إلى يومنا هذا. والأكثر إثارة للغضب والتساؤلات أن بلير يغتصب المنطق ليؤكد أن لا علاقة بين الغزو والاحتلال وبين التداعيات التي توالت، وعلى رأسها الإرهاب الذي دمر تقريبا أقدم وأهم حضارة في التاريخ، وأهلك عشرات الآلاف من البشر، بينما شرد عشرات الملايين. فهل بلير كانت يعتذر للعراقيين وأمهاتهم وآبائهم وأبنائهم أم لذوي مئة وسبعين مواطنا بريطانيا؟ هل كان بلير يرى دماء مئات الآلاف من العراقيين أم يرى دماء البريطانيين الزرقاء؟ لقد استعار توني بلير، الذي لا يختلف كثيرا عن القادة الأمريكيين الحلفاء، منطقا مقلوبا لا لكي يعترف بالجريمة التي تمت بالالتفاف على الأممالمتحدة وبدون موافقتها، ولا لكي يقدِّم الثمن ويقف أمام القضاء انطلاقا من مسؤوليته المباشرة مع حلفائه الأمريكيين، وإنما لكي يحاول إثارة نوع من الجدل والدجل في آن واحد، ويحوِّل اتجاه البوصلة إلى تفاصيل شديدة السذاجة والسطحية بهدف غسل الضمائر والأيادي من جريمة بحق العراق والعراقيين. لدرجة أنه ذهب إلى المقارنة والمفاضلة بين عراق صدام حسين وعراق الغزو والاحتلال والإرهاب والطائفية. إن منطق توني بلير، لا يختلف كثيرا عن منطق حلفائه ومنطق الكثير من الحكام والزعماء العرب أيضا. فهو يضع الرأي العام عموما، والرأي العام العراقي والإنسان العراقي البسيط أمام خيارات شحيحة وظالمة وغير منطقية: إما صدام أو الديمقراطية، أي إما نظام نرضى عنه أو قتل ودمار باسم الديمقراطية!! إما نظام البعث أو نظام جاء على الدبابات الأنجلوساكسونية!! إما "نحن" أو الإرهاب!! وفي نهاية المطاف يكتشف العراقيون أن لا صدام موجود ولا ديمقراطية، وأن لا بعث موجود ولا أنظمة جاءت على الدبابات وحاملات الطائرات، وأن الإرهاب والتشرد والنزوح والهجرة والفقر تزدهر كلها وفي ظل هذه ال "نحن!"، سواء كانت "نحن الأنظمة الاستبدادية"، أو "نحن القوى الغربية التي تدعم هذه الأنظمة أو تزيحها". والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الاعتراف بجريمة بريطانياوالولاياتالمتحدة وحلفائهما في غزو العراق واحتلاله وتدميره وتقسيمه يعفي صدام حسين ونظامه من الحماقات والجرائم، لكي يعود أنصار السكون والاستبداد إلى الاسطوانة القديمة حول الغزو الغربيوالاستعمار الأجنبي؟ وهل كانت حماقات وجرائم صدام ونظامه مبررا لغزو واحتلال، لكي يقف العالم مصفقا لتوني بلير وجورج بوش الابن وجنرالاتهم وقواتهم التي قتلت شعبا ودمرت دولة؟! في الحقيقة، لا يمكن لأي عاقل أن يبرر جرائم صدام حسين بحق الشعب العراقي وبحق قواه السياسية والوطنية منذ أن كان نائبا لرئيس الجمهورية. ولا يمكن لأي مواطن عراقي أو غير عراقي أن يبرر جبروت هذا النظام وعنفه ودمويته وتجريفه العراق من طاقاته البشرية بالدرجة الأولي. وبالتالي فقد نال صدام حسين ونظامه العقاب اللازم. فهل عقاب صدام ونظامه ينفيان جرائم الغزو والاحتلال الأنجلوساكسوني؟! وهل فعلا، كان الغزو والاحتلال والتدمير والقتل بسبب أسلحة الدمار الشامل التي لم تكن موجودة أصلا؟ وهل كان بسبب حماية الأقليات التي تقتل بعضها البعض الآن، والتي يستخدمها الغرب الآن إما بعلمها أو بدون علمها؟ ولصالح من بالضبط تم تدمير العراق وقتل مئات الآلاف من العراقيين تحت دعوى القضاء على صدام حسين ونظامه؟ إن تقرير "شيلكوت"، وردود توني بلير عليه، يعيدنا مجددا إلى الحديث عن القيم والمعايير الغربية في كل المجالات، وإلى أن تبييض الوجه وغسل اليد والضمير، استعدادا لغزوات جديدة، بحاجة إلى نوع من أنواع الديمقراطية وتداول السلطة والاحتيال الإعلامي والتاريخي، حتى وإن كنا قد عاصرنا الحدث وعشناه وعايشناه، ورأينا كيف تم غزو العراق على وجه السرعة وبخطوات كأنها محسوبة مسبقا، وكأنه أحد الأهداف السامية للمعسكر الأنجلوساكسوني، بينما تداعيات هذا الغزو، وعلى رأسها الإرهاب، تجري مكافحتها بإيقاع مثير للتساؤلات. إن توني بلير وجورج بوش الإبن وجنرالاتهما وحلفائهما من جهة، وصدام حسين وأمثاله وأنظمتهم من جهة أخرى، ما هم إلا وجهان لعملة واحدة. فهما يتغازلان ويتحالفان ويعيشان أشهر عسل طويلة، ولا حديث هنا عن الشعوب أو الديمقراطية أو الأقليات. وعندما يختلفان، تظهر الأحاديث عن أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الكيميائية، وإن لم تكن موجودة، فالحديث عن الديمقراطية والأقليات جاهز، حتى وإن كان ثمنه ملايين الضحايا بين قتيل وعاجز مدى الحياة ومشرد ونازح ولاجئ. لا يمكن إنكار أو نفي جرائم صدام حسين ونظامه، بالضبط مثل استحالة إنكار أو نفي جرائم الكثير من الأنظمة العربية حق شعوبها، ولكن هل كان دافع بلير وبوش الإبن فعلا هو حق الشعوب؟! لقد نفى صدام حسين وأنكر كل الاتهامات التي وجهت إليه أثناء جلسات محاكمته على الهواء مباشرة، بالضبط مثلما فعل توني بلير الذي كان أذكى من صدام بطبيعة الحال، لأنه ببساطة يعرف أن لا أحد سيحاكمه، ولا أحد يمكن أن يحاكمه أصلا. بل سيجد من يبرر له، ومن يدعمه، ومن يلتف معه على القانون والقيم والأخلاق. أي ببساطة، المعركة كانت، ولا تزال، بين نظم سياسية دموية وبين قوى غاشمة و"كذابة" ومخادعة، والشعوب هي الضحية، بالضبط مثلما كان، وما زال الشعب العراقي هو الضحية، والدولة العراقية هي الضحية. فعن أي أقليات يتحدث توني بلير؟ وهل يمكن أن تخدعنا كلمات بلير الذي يعترف جزئيا بالذنب، ونحن نرى تلك الأقليات تنحر بعضها البعض، وتتقاسم أرض الدولة الواحدة وكأن الأرض العراقية تُعرَض في مزاد علني؟! وماذا فعل كل من بلير وبوش الإبن بعد غزو العراق واحتلاله؟ هل يمكن أن تقنعنا كلمات بلير بأن العراق في أفضل حال الآن، أو أنه أفضل من عراق صدام حسين؟ وهل كان عراق صدام حسين يتلاءم مع أحلام وطموحات العراقيين، ويلبي حاجات الشعب العراقي؟ لا مفاضلة ولا مقارنة، لأن الهدف هو تمرير الجريمة وغسل اليد والضمير. بالضبط مثلما يحاول البعض أن يستخدم نفس المنطق لتبرئة صدام حسين ونظامه من دماء العراقيين وتجريف مستقبلهم وتشريدهم وتهجيرهم. إن الجريمة لا تجب الجريمة. فجريمة بلير وبوش وحلفائهما لا تجب جرائم صدام حسين. وجرائم صدام حسين والأنظمة المشابهة لنظامه لا تجب جرائم بلير وبوش. ولكن هذا ليس مدعاه لأن يتذرع أنصار أحد الطرفين المجرمين بأنه يملك الحقيقة، فلا تبرير للقهر والعنف والاستبداد، ولا تبرير للغزو والاحتلال. ولكن هذين الطرفين العاطبين وأنصارهما يضعان الشعوب أمام الخيار الصعب: إما أحدنا أو الآخر.. إما نحن الاثنان أو الدمار! إنهما ببساطة لا يتركان خيارا ثالثا للشعوب، ويسعيان لتجريد الشعوب من أي اختيار ثالث.