التقيتها لأول مرة منذ عدة سنوات في مجلة الثقافة الجديدة، حيث شاركنا معًا في ندوة نظمها "حمدي أبو جليل" عن المظلومية التي تتعرض لها المبدعات في مصر، وهو الموضوع الذي حولته في ما بعد إلى فيلم تسجيلي بعنوان (88). لم أكن أعرف من المشاركات في الندوة سوى بضع سيدات، وكنت أمر بظروف شخصية عصيبة لا تنفصل عن موضوع الندوة، دفعتني إلى الشرود معظم الوقت، خاصة بعدما أحرجني توقع بعضهن أن اُمنع من حضور الندوة، وربما من الخروج من المنزل من أصله.. حتى نبهني حديثها.. كانت مظلوميتها مختلفة عن الأخريات، ولا أبالغ إن قلت إنها كانت -وما زالت- أكثرنا نضالاً وجرأة. بدأت كلمتها بتعريف نفسها: "أميرة الأدهم.. شاعرة وطبيبة من الصعيد" صوتها رقيق جدًّا، لا يتماشى مع المنطوق من كلماته، التي تؤكد أن آلهة الأرض السمراء التي جاءت منها هذه "الأميرة"، أورثتها جينات الصلابة والتحدي التي ميزت الجدات، "إيزيس"، و"ماعت"، و"سخمت"، كما أورثتها لون بشرتها الحنطية، وعينيها السوداوين، العميقتين. ثم تبعت هذه الكلمات بشرح مظلوميتها، التي تتلخص في كونها فتاة مصرية صعيدية، نشأت في منزل جدها المناضل اليساري، الذي علمها أن البنت زي الولد ماهيش كمالة عدد، في مجتمع يعتبرها كمالة منقوصة! وتوفى الجد والوالدان، فحملت وحدها إرثه الثقيل من المبادئ السياسية والأخلاقية، التي تفرض عليها نضالاً مستمرًّا. ورغم أنها لا تُبشر بما تعتقد، فإنها مضطهدة لمجرد اختلافها.. حكت يومها مثلاً أن الظلاميين يفرضون عليها ارتداء الحجاب في الصورة الخاصة بكارنيه كلية الطب، رغم أنها ليست محجبة، وأن احتكاكها بالدوائر الثقافية في القاهرة يقابل في الصعيد بالكثير من التحفظ.. وأشياء أخرى كثيرة لم تثر دهشتي، قدرما أثارتها هذه الفتاة المتمردة، التي تحارب وحدها، وتأبى أن تستسلم.. ثم التقينا بعدها بأيام في دار "ميريت"، حيث كانت تضع اللمسات الأخيرة لديوانها الأول (تفقد عذريتها على مهل)! وأيدتها في إصرارها على عدم تغيير عنوان الديوان الصادم، رغم نُصح المُحبين، المُشفقين عليها من هول ما سوف تواجهه. توالت لقاءاتنا بعد ذلك وتوطدت الصداقة، والمحبة، والأخوة، وأهدتني نسخة من الديوان بعد صدوره، وحكت لي كيف كانت في البدء رهبتها من مجتمع القاهرة المتحرر، المتحرش في آن، فأوغلت فيه برفق، كأنها تفقد عذريتها الصعيدية، الوجلة، على مهل.. هذا ما ألهمها لعنوان الديوان، الذي كان أصدق، ما قرأته به، صرختها التي تشاركها بها كل أنثى شرقية: اقتلوا ليلى أقرب للتقوى اقتلوا ليلى إن كنتم مؤمنين اقتلوا ليلى تجدوا ما سألتم اقتلوا ليلى أو اقتلوها اقتلوا ليلى قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم وبعد عدة أشهر، انتقلت "أميرة" للإقامة بالقاهرة، حيث شاركت إحدى الصديقات إيجار شقة بشارع الشيخ ريحان بوسط البلد. كان لهذه الشقة سحر خاص، وكنت أصفها بأنها خارج حدود الزمن، فهي تقع بدور أرضي، يفصلنا عن الواقع، إذ يتعذر فيه استقبال أي شبكة من شبكات المحمول، ويقع إلى جوارها مباشرة، مطحن ومحمصة بن، تنبعث منه رائحة القهوة، التي هي صوت ومئذنة، كما يصفها محمودنا الدرويش. وأصبحت "شقة الشيخ ريحان" كما كنا نسميها، بعد أسابيع معدودات ملتقى الأصدقاء والأحبة.. تشاركنا بها ذكريات عزيزة على القلب، مثلما تشاركنا بها أطباق البسبوسة، وأكواب الشاي، وعلب السجائر، والنقاشات، والسهرات الحافلة بالكثير من اللحظات السعيدة، والإحباطات المُحزنة، والأحلام العريضة، البعيدة، التي كنا نراها قريبة، بتأثير الألفة والمحبة، التي حفت مجلسنا. ثم مرت بنا جميعًا ظروف عصيبة، وتشتت الجمع، واختفت "أميرة".. هكذا فجأة، كما اختفت عروس النيل "هاميس"، تاركة وراءها أحباءها يبحثون عنها، ويناجونها "عودي يا هميس".. ولكن "هميس" أو "أميرة" لم تستجب لنداءات الأحبة، ولم يعرف أحد ما حدث لها، وتوقعت أنها هربت من غربتها إلى نفسها، فهي أينما رحلت تحمل غربتها معها.. غريبة في القاهرة عن أرض آلهتها، وغريبة في الصعيد بأفكار الآلهة ذاتهم.. وبعد شهور ليست قليلة وصلتني منها رسالة تخبرني بموعد زيارة قريبة إلى القاهرة، التقينا في النادي اليوناني، وحكت لي عن رحلتها لاكتشاف الذات.. كيف توحدت مع روحها، بمنأى عن الجميع، وانهمكت في عملها، الذي فتح لها بالصدفة البحتة بابًا على عالم جديد، يقع في قلب الصعيد، كما تقع المدينة الأسطورية أطلانتس بقلب المحيط .. لقد عُينت "أميرة" طبيبة معالجة، ومديرة للوحدة الصحية بقرية "النواورة" بمركز "البداري" – أسيوط، وفي هذه القرية التي يختلف سكانها برقتهم عن باقي أهل الصعيد المعروفين بغلظتهم، وجدت أميرة الوطن المنشود، ووجد مرضاها النفسيون فيها الأمل. وقد أخبرتها في تلك الليلة أن هذه التجربة تستحق السرد في عمل أدبي، لفرط الجمال الكامن في تفاصيل ما حكته عن هذه البقعة السعيدة من أرض الآلهة، واتفقنا في الجلسة ذاتها على تصميم غلاف ديوانها الجديد "تشبه الحياة"، الذي أصدرته دار ميريت بعد شهور قليلة، وعادت أميرة أكثر إقبالاً على الحياة التي تشبهها.. تكتب على فيسبوك بانتظام يومياتها في الوحدة الصحية، مع مرضاها الذين يعتبرونها كما تعتبرهم شركاء في أسرة واحدة، وتنظم الشعر، وتضع اللمسات الأخيرة لديوانها الثالث "ليس لديها مشاكل مع الجحيم"! ولكن الطبيبة والشاعرة، التي تصالحت مع مشاكلها مع الجحيم، لم تكن تعلم أن هناك جحيمًا آخر ينتظرها.. هذا الجحيم الذي يديره زبانية المسؤولين الفاسدين في بلادنا. فقد قام أحد أقرباء البيه وكيل وزارة الصحة في أسيوط، الدكتور "أحمد أنور"، بالاعتداء على "أميرة" وعلى طاقم الوحدة في أثناء تأدية عملهم، رغم تقديم الرعاية الطبية الكاملة له، فقامت فورًا بتحرير محضر ضده، الأمر الذي أثار غضب البيه وكيل الوزارة، فأصدر أمره بنقلها من مركز البداري، إلى مركز صدفا (بشكل غير قانوني)، بعد رفضها التنازل عن المحضر، كما أصدر أمره بحرمانها من حوافز ونبطشيات شهر كامل! ثم تمادى في التنكيل بها، فوافق على مذكرة كيدية، تشتكي سوء إدارتها للوحدة وتغيبها عن العمل في الفترة الصباحية، وهو ما أثبتت "أميرة" عدم صحته بالمستندات. والمُفرح المُبكي، في آن، أن أهالي النواورة الذين تعلقوا بالملاك المداوي، قاموا بعمل تظاهرة حب بعشرات التلغرافات (بلغت أكثر من 150 تلغرافًا) يطالبون مسؤولي الصحة، والمحافظ بالإبقاء على أميرتهم، فقابلها البيه الوكيل بقوله: "إحنا من إمتى بنعمل اللي الناس عايزينه؟!" واستمرت الأزمة، رغم أن "أميرة" لم تتهاون في الدفاع عن حقها القانوني، والإنساني، بالبقاء في المركز.. شكاوى.. وتظلمات.. وحوارات للصحف.. ولكن بلا جدوى! ولعل الجزئية الأكثر إيلامًا في هذه القصة، هي تلك الخاصة بموقف المرضى النفسيين الذين أشرفت "أميرة" على علاجهم.. 200 مريض نفسي تابعتهم على مدار عامين، كانت خلالهم الطبيبة النفسية الوحيدة بالوحدة، فارتبطوا بها كما ارتبطت بهم، وأصبح كل منهما يشكل للآخر وطنًا.. لقد أبلغتها الممرضات، بتدهور حالات مرضاها بعد قيامهم بالتمرد على العلاج، اعتراضًا منهم على رحيلها، حتى إنهم يمرون كل صباح على الموظفين، يشتبكون معهم ويسبونهم، ظنًّا منهم أنهم سبب نقلها. وما زالت الطبيبة والشاعرة "أميرة الأدهم"، تناضل من أجل رفع المظلومية عنها، وعن مرضاها، وإظهار الحق، في كتابات يومية على صفحتها تحت عنوان (مش هاسكت).. فهل من مجيب؟!