انتصارات أكتوبر.. "الأوقاف": "وما النصر إلا من عند الله" موضوع خطبة الجمعة المقبلة    محافظ أسوان يفتتح مشروع الهوية البصرية "رمز النيل " (صور)    بسعر 150 للطبق، شعبة بيض المائدة تضخ 300 ألف بيضة بمنافذ التموين    وزير التعليم العالي يبحث مع السفير السويدي سُبل تعزيز التعاون    متظاهرون يطالبون ماكرون بالاستقالة بسبب أحداث غزة ولبنان    الأمم المتحدة أكثر من 200 ألف نازح لبناني بسبب العدوان الإسرائيلي    الرياضية السعودية: فيتوريا يوافق على تدريب الأهلي    السوبر الإفريقي| تاريخ مواجهات الأهلي والزمالك «القارية».. تفوق كاسح للأحمر    حالة الطقس غدا.. شبورة مائية وأمطار على مناطق مختلفة    التصريح بدفن جثمان طفل دفعه شقيقه بالمياه    محافظ أسوان يؤدي صلاة الغائب على شهيد الواجب معاون مباحث كوم أمبو    وفاة الممثلة ماجي سميث عن عمر يناهز 89 عاما    دعاء يوم الجمعة المباركة.. كلمات وردت عن النبي في خير أيام الأسبوع    محافظ الفيوم يعلن نجاح أول عملية قلب مفتوح بمستشفى طامية المركزي    استشاري تغذية علاجية لأصحاب الريجيم: احرصوا على وجبة متكاملة    تقارير: راموس لم يتلقَ عروضًا من الزمالك    غموض موقف نجم ريال مدريد من خوض الديربي    10 إجراءات بجامعة طيبة التكنولوجية بالأقصر لاستقبال العام الدراسي الجديد    "الزراعة" تنشر رسائل الإنذار المبكر لتوعية المزارعين لتجنب الآثار السلبية لتغير المناخ    رئيس هيئة المحطات النووية يزور معرض إنجازات الصناعة الوطنية الروسية    النيابة تطلب التحريات حول فنى متهم بالنصب على مصطفى كامل    مصرع تلميذة سقطت من أعلى مرجيحة أثناء لهوها بقنا    بعد زلزال إثيوبيا.. عباس شراقي: سد النهضة قنبلة مائية قد تنفجر في أي وقت    مسلسل أزمات مطرب المهرجانات «مسلم» عرض مستمر، ووالدته تضعه في مأزق    فتح شواطئ وأندية الإسماعيلية بالمجان بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للسياحة    أيمن بهجت قمر: «تامر حسني بيحب يغير في كلمات الأغاني» (فيديو)    أنغام تتألق في «ليالي مصر» بالمتحف المصري الكبير    روسيا تعلن حصيلة جديدة لقتلى قوات كييف في كورسك    القومى للطفولة والأمومة بالبحيرة ينظم ندوة تثقيفية بدمنهور    رئيس حزب الجيل: الحوار الوطني يجمع كل ألوان الطيف السياسي والفكري المصري    نائب وزير الصحة تتفقد وحدة أسرة سيدي بشر وتشيد بجهود الفريق الطبي    نبض واحد.. احتفال "اليوم العالمي للقلب" بمشاركة نخبة من خبراء المجتمع الطبي والرياضي    توجيهات لوزير التعليم العالي بشأن العام الدراسي الجديد 2025    خبير استراتيجي: إسرائيل تستهدف دخولا بريا لتدمير بنية حزب الله    إيرادات الخميس.. "عاشق" الأول و"ولاد رزق 3" في المركز الرابع    تغييرات غريبة تنتظرك.. ماذا يحدث ل5 أبراج فلكية في آخر 3 شهور من 2024؟    "كنوز مصرية".. متحف شرم الشيخ يحتفل بيوم السياحة العالمي    غرفة السلع السياحية تناشد الأعضاء بسرعة سداد الاشتراكات تجنبًا للغرامة    خبير باليونسكو يكشف أهمية الهيدروجين الأخضر في الحفاظ على التنوع البيولوجي واستدامة الموارد الطبيعية    تين هاج يتحدث عن عدم تسجيل برونو حتى الآن    رئيس الرعاية الصحية والمدير الإقليمي للوكالة الفرنسية يبحثان مستجدات منحة دعم التأمين الشامل    موعد تغيير الساعة في مصر وتطبيق التوقيت الشتوي 2024: «اضبط ساعتك»    باكستان تؤكد رغبتها في تعزيز التعاون الثنائي مع نيبال    إشراقة الإيمان: قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة    شهيدان في قصف إسرائيلي استهدف سكان حي الشجاعية شرق غزة    الأنبا مكاريوس يترأس حفل تخريج دفعة جديدة من الكلية الإكليريكية    بعد تداول مقطع صوتي.. الداخلية تضبط طبيبين تحرشا بالسيدات أثناء توقيع الكشف الطبي عليهن    مميزات وشروط الالتحاق في مدارس «ابدأ».. تخلق كيانات تعليم فني معتمدة دوليا وتواكب سوق العمل    مواعيد مباريات اليوم 27 سبتمبر.. القمة في السوبر الإفريقي ومونديال الأندية لليد    سيميوني: أتلتيكو مدريد يحتاج لهذا الشئ    ما حكم الجمع بين الصلوات لعذر؟ الإفتاء تجيب    موعد مباراة النصر والوحدة في الدوري السعودي والقناة الناقلة    ولي عهد الكويت يؤكد ضرورة وقف التصعيد المتزايد بالمنطقة وتعريضها لخطر اتساع رقعة الحرب    "حقوق الإنسان": اقترحنا عدم وجود حبس في جرائم النشر وحرية التعبير    خالد الجندي: لهذه الأسباب حجب الله أسرار القرآن    حريق كشك ملاصق لسور مستشفى جامعة طنطا (تفاصيل)    وزير الصحة اللبناني: أكثر من 40 عاملا في مجال الرعاية الصحية استشهدوا في العدوان الإسرائيلي    أحمد الطلحي: سيدنا النبي له 10 خصال ليست مثل البشر (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أميرة من الصعيد
نشر في التحرير يوم 18 - 03 - 2016

التقيتها لأول مرة منذ عدة سنوات في مجلة الثقافة الجديدة، حيث شاركنا معًا في ندوة نظمها "حمدي أبو جليل" عن المظلومية التي تتعرض لها المبدعات في مصر، وهو الموضوع الذي حولته في ما بعد إلى فيلم تسجيلي بعنوان (88). لم أكن أعرف من المشاركات في الندوة سوى بضع سيدات، وكنت أمر بظروف شخصية عصيبة لا تنفصل عن موضوع الندوة، دفعتني إلى الشرود معظم الوقت، خاصة بعدما أحرجني توقع بعضهن أن اُمنع من حضور الندوة، وربما من الخروج من المنزل من أصله.. حتى نبهني حديثها.. كانت مظلوميتها مختلفة عن الأخريات، ولا أبالغ إن قلت إنها كانت -وما زالت- أكثرنا نضالاً وجرأة. بدأت كلمتها بتعريف نفسها:
"أميرة الأدهم.. شاعرة وطبيبة من الصعيد"
صوتها رقيق جدًّا، لا يتماشى مع المنطوق من كلماته، التي تؤكد أن آلهة الأرض السمراء التي جاءت منها هذه "الأميرة"، أورثتها جينات الصلابة والتحدي التي ميزت الجدات، "إيزيس"، و"ماعت"، و"سخمت"، كما أورثتها لون بشرتها الحنطية، وعينيها السوداوين، العميقتين.
ثم تبعت هذه الكلمات بشرح مظلوميتها، التي تتلخص في كونها فتاة مصرية صعيدية، نشأت في منزل جدها المناضل اليساري، الذي علمها أن البنت زي الولد ماهيش كمالة عدد، في مجتمع يعتبرها كمالة منقوصة! وتوفى الجد والوالدان، فحملت وحدها إرثه الثقيل من المبادئ السياسية والأخلاقية، التي تفرض عليها نضالاً مستمرًّا. ورغم أنها لا تُبشر بما تعتقد، فإنها مضطهدة لمجرد اختلافها.. حكت يومها مثلاً أن الظلاميين يفرضون عليها ارتداء الحجاب في الصورة الخاصة بكارنيه كلية الطب، رغم أنها ليست محجبة، وأن احتكاكها بالدوائر الثقافية في القاهرة يقابل في الصعيد بالكثير من التحفظ.. وأشياء أخرى كثيرة لم تثر دهشتي، قدرما أثارتها هذه الفتاة المتمردة، التي تحارب وحدها، وتأبى أن تستسلم.. ثم التقينا بعدها بأيام في دار "ميريت"، حيث كانت تضع اللمسات الأخيرة لديوانها الأول (تفقد عذريتها على مهل)! وأيدتها في إصرارها على عدم تغيير عنوان الديوان الصادم، رغم نُصح المُحبين، المُشفقين عليها من هول ما سوف تواجهه.
توالت لقاءاتنا بعد ذلك وتوطدت الصداقة، والمحبة، والأخوة، وأهدتني نسخة من الديوان بعد صدوره، وحكت لي كيف كانت في البدء رهبتها من مجتمع القاهرة المتحرر، المتحرش في آن، فأوغلت فيه برفق، كأنها تفقد عذريتها الصعيدية، الوجلة، على مهل.. هذا ما ألهمها لعنوان الديوان، الذي كان أصدق، ما قرأته به، صرختها التي تشاركها بها كل أنثى شرقية:
اقتلوا ليلى أقرب للتقوى
اقتلوا ليلى إن كنتم مؤمنين
اقتلوا ليلى تجدوا ما سألتم
اقتلوا ليلى أو اقتلوها
اقتلوا ليلى قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم
وبعد عدة أشهر، انتقلت "أميرة" للإقامة بالقاهرة، حيث شاركت إحدى الصديقات إيجار شقة بشارع الشيخ ريحان بوسط البلد. كان لهذه الشقة سحر خاص، وكنت أصفها بأنها خارج حدود الزمن، فهي تقع بدور أرضي، يفصلنا عن الواقع، إذ يتعذر فيه استقبال أي شبكة من شبكات المحمول، ويقع إلى جوارها مباشرة، مطحن ومحمصة بن، تنبعث منه رائحة القهوة، التي هي صوت ومئذنة، كما يصفها محمودنا الدرويش.
وأصبحت "شقة الشيخ ريحان" كما كنا نسميها، بعد أسابيع معدودات ملتقى الأصدقاء والأحبة.. تشاركنا بها ذكريات عزيزة على القلب، مثلما تشاركنا بها أطباق البسبوسة، وأكواب الشاي، وعلب السجائر، والنقاشات، والسهرات الحافلة بالكثير من اللحظات السعيدة، والإحباطات المُحزنة، والأحلام العريضة، البعيدة، التي كنا نراها قريبة، بتأثير الألفة والمحبة، التي حفت مجلسنا.
ثم مرت بنا جميعًا ظروف عصيبة، وتشتت الجمع، واختفت "أميرة".. هكذا فجأة، كما اختفت عروس النيل "هاميس"، تاركة وراءها أحباءها يبحثون عنها، ويناجونها "عودي يا هميس".. ولكن "هميس" أو "أميرة" لم تستجب لنداءات الأحبة، ولم يعرف أحد ما حدث لها، وتوقعت أنها هربت من غربتها إلى نفسها، فهي أينما رحلت تحمل غربتها معها.. غريبة في القاهرة عن أرض آلهتها، وغريبة في الصعيد بأفكار الآلهة ذاتهم.. وبعد شهور ليست قليلة وصلتني منها رسالة تخبرني بموعد زيارة قريبة إلى القاهرة، التقينا في النادي اليوناني، وحكت لي عن رحلتها لاكتشاف الذات.. كيف توحدت مع روحها، بمنأى عن الجميع، وانهمكت في عملها، الذي فتح لها بالصدفة البحتة بابًا على عالم جديد، يقع في قلب الصعيد، كما تقع المدينة الأسطورية أطلانتس بقلب المحيط .. لقد عُينت "أميرة" طبيبة معالجة، ومديرة للوحدة الصحية بقرية "النواورة" بمركز "البداري" – أسيوط، وفي هذه القرية التي يختلف سكانها برقتهم عن باقي أهل الصعيد المعروفين بغلظتهم، وجدت أميرة الوطن المنشود، ووجد مرضاها النفسيون فيها الأمل. وقد أخبرتها في تلك الليلة أن هذه التجربة تستحق السرد في عمل أدبي، لفرط الجمال الكامن في تفاصيل ما حكته عن هذه البقعة السعيدة من أرض الآلهة، واتفقنا في الجلسة ذاتها على تصميم غلاف ديوانها الجديد "تشبه الحياة"، الذي أصدرته دار ميريت بعد شهور قليلة، وعادت أميرة أكثر إقبالاً على الحياة التي تشبهها.. تكتب على فيسبوك بانتظام يومياتها في الوحدة الصحية، مع مرضاها الذين يعتبرونها كما تعتبرهم شركاء في أسرة واحدة، وتنظم الشعر، وتضع اللمسات الأخيرة لديوانها الثالث "ليس لديها مشاكل مع الجحيم"!
ولكن الطبيبة والشاعرة، التي تصالحت مع مشاكلها مع الجحيم، لم تكن تعلم أن هناك جحيمًا آخر ينتظرها.. هذا الجحيم الذي يديره زبانية المسؤولين الفاسدين في بلادنا.
فقد قام أحد أقرباء البيه وكيل وزارة الصحة في أسيوط، الدكتور "أحمد أنور"، بالاعتداء على "أميرة" وعلى طاقم الوحدة في أثناء تأدية عملهم، رغم تقديم الرعاية الطبية الكاملة له، فقامت فورًا بتحرير محضر ضده، الأمر الذي أثار غضب البيه وكيل الوزارة، فأصدر أمره بنقلها من مركز البداري، إلى مركز صدفا (بشكل غير قانوني)، بعد رفضها التنازل عن المحضر، كما أصدر أمره بحرمانها من حوافز ونبطشيات شهر كامل!
ثم تمادى في التنكيل بها، فوافق على مذكرة كيدية، تشتكي سوء إدارتها للوحدة وتغيبها عن العمل في الفترة الصباحية، وهو ما أثبتت "أميرة" عدم صحته بالمستندات.
والمُفرح المُبكي، في آن، أن أهالي النواورة الذين تعلقوا بالملاك المداوي، قاموا بعمل تظاهرة حب بعشرات التلغرافات (بلغت أكثر من 150 تلغرافًا) يطالبون مسؤولي الصحة، والمحافظ بالإبقاء على أميرتهم، فقابلها البيه الوكيل بقوله:
"إحنا من إمتى بنعمل اللي الناس عايزينه؟!"
واستمرت الأزمة، رغم أن "أميرة" لم تتهاون في الدفاع عن حقها القانوني، والإنساني، بالبقاء في المركز.. شكاوى.. وتظلمات.. وحوارات للصحف.. ولكن بلا جدوى!
ولعل الجزئية الأكثر إيلامًا في هذه القصة، هي تلك الخاصة بموقف المرضى النفسيين الذين أشرفت "أميرة" على علاجهم.. 200 مريض نفسي تابعتهم على مدار عامين، كانت خلالهم الطبيبة النفسية الوحيدة بالوحدة، فارتبطوا بها كما ارتبطت بهم، وأصبح كل منهما يشكل للآخر وطنًا.. لقد أبلغتها الممرضات، بتدهور حالات مرضاها بعد قيامهم بالتمرد على العلاج، اعتراضًا منهم على رحيلها، حتى إنهم يمرون كل صباح على الموظفين، يشتبكون معهم ويسبونهم، ظنًّا منهم أنهم سبب نقلها.
وما زالت الطبيبة والشاعرة "أميرة الأدهم"، تناضل من أجل رفع المظلومية عنها، وعن مرضاها، وإظهار الحق، في كتابات يومية على صفحتها تحت عنوان (مش هاسكت).. فهل من مجيب؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.