من الصعب تصور أن الرئيس مرسى قد ذهب إلى إثيوبيا وهو لا يدرى ماذا ينتظره هناك، ومن المستحيل تصديق أنه أخذ على غرة كما تحاول إدارته أن تتظاهر، فقد كان يعرف أن هناك مشكلة ضخمة فى انتظاره، وأخذ بصحبته وزير الرى لعله ينقذ ما يمكن إنقاذه، ولكنه كان تصرفا ضعيفا، فقد انتهزت إثيوبيا الفرصة لتوصل إليه رسالتها كاملة، استقبال فاتر، قطع لخطابه، لأنه كعادته أطال فى ما لا يفيد، وقوفه فى الصفوف الخلفية فى أثناء التصوير فى وضع قد يرتضيه لنفسه، ولكنه ليس موضع مصر فى قارتها بالتأكيد، رسالة مؤداها أن إثيوبيا لن تبالى بما يمثله وستواصل عملها على الأرض، والخوف أن يعد هذا بمنزلة موافقة رمزية من مصر، وأن يعطى الضوء الأخضر للمؤسسات المالية التى قد تتردد فى التمويل، وهذه هى الكارثة الحقيقية لزيارة الرئيس، التنازل الوحيد الذى قدمه الجانب الإثيوبى هو الانتظار حتى يركب الرئيس الطائرة قبل أن يعلن خبر تحويل النهر وبدء المشروع فعليا، ولن تقدم إثيوبيا أى تنازل آخر من الآن فصاعدا. تتبع إثيوبيا نهج إسرائيل فى التعامل السياسى معنا، فهى تصرح وتؤكد وتطمئن وتجزم وتبذل الوعود، بأنها لن تمس قطرة من حصتى مصر والسودان، وأنها ستشاركنا فى كهرباء السد الجديد، ولكنها على أرض الواقع لا تقدم أى نوع من الضمانات، وقد وافقت على تكوين اللجنة الثلاثية التى تبحث تأثير السد على دولتى المصب، وشارك خبراؤها فى هذه اللجنة، دون أن تقدم لها أى نوع من المعلومات، فنحن لا نعلم أى شىء عن السد، بما فى ذلك ارتفاعه، ولا كمية المياه التى سيخزنها خلفه، ولا كمية المياه المسموح بتصريفها، باختصار نحن نبكى ونلطم دون أن ندرك بالضبط ماذا سنفقد، حتى وزير الرى، الذى رعت وزارته ملف النيل حتى ضيعته، يبدو مذهولا، لا تصدر عنه إلا أتفه التصريحات وأكثرها غموضا، مما يوحى بالارتباك فى مواجهة موقف أكبر من قدرته الذهنية. دعونا نعرف أن موقفنا حتى الآن يبدو ضعيفا، فقد كنا طوال آلاف السنين تحت رحمة الطبيعة التى تتحكم فى كمية مياه النهر، وأصبحنا الآن تحت قبضة النظام الحاكم فى هذا البلد البعيد، لقد وقفنا ضده فى أثناء حربه مع إريتريا، وعاديناه وقاطعناه بحجة أن نظامه شيوعى، وها هو يرد لنا الضربات، ولو قمنا بأى تهديد أو عمل استفزازى ستقف إفريقيا، وربما العالم كله ضدنا، لأننا نريد أن نحرم دولة فقيرة من أحلامها وتطلعاتها القومية، لن يرى أحد أرضنا التى تموت وهو يستمر فى ملء خزانه المائى خلف السد، وسوف يستغرق ذلك 6 سنوات كاملة، والله أعلم ماذا سيفعل بنا بعد ذلك فى السنوات التى يشح فيها المطر ويعم الجفاف، ولا ماذا سنفعل عندما يتحول الماء إلى سلعة تباع وتشترى ويطالبنا بمقابلها، مثلما تحاول تركيا الآن بعد أن أتمت بناء سد أتاتورك، وتسعى من خلاله لابتزاز سوريا والعراق، نهر النيل الآن أصبح له سيده، وهو ليس نحن، وله مفتاحه، وهو ليس ملكنا، بالطبع سنلجأ إلى الضغط والشكوى فى المحافل الدولية، وهى مسألة يطول شرحها، فإفريقيا لا تعترف بالوثائق التى تم توقيعها فى عهد الاستعمار، وهى مرحلة كريهة لن تعترف بها أى محكمة معاصرة، وسنرسل حفنة من رجال الأعمال الانتهازيين، معظمهم من الأغنياء الجدد من جماعة الإخوان، يفتقرون إلى الخيال والخبرة، لن يقدموا إلا وعودا كاذبة، ولن يأخذوا من الجانب الإثيوبى إلا وعودا تشبه كذبهم، إنها معركة كبرى قد خسرناها، وتحد جديد يقف بنا على حافة الحياة والموت، ومصيرنا مرتبط بالاستجابة لهذا التحدى. فى كل تهديد فرصة، كما يقول مخططو الاستراتيجية، ولن نواجه تهديدا أخطر من ذلك، لقد اعتمدنا لسنوات طويلة، فى نوع من العجز والاستسلام على النيل كمصدر واحد للمياه، لم ننمه أو نطوره بحق إلا مع السد العالى، وتركنا بقية مصر صحراء قاحلة، ويعتبرها عالم الجغرافيا جمال حمدان أشد صحراوات العالم اتساعا بالنسبة إلى مساحة مصر، والمصدر الوحيد للمياه تقريبا هو النيل الأزرق الذى ينحدر من مرتفعات إثيوبيا، فالنيل الأبيض الذى ينبع من البحيرات العظمى، وهو الأغزر ماء وأكثر تدفقا لا يصلنا منه إلا أقل القليل، فهو يصاب بالوهن والشيخوخة عندما يصل إلى جنوب السودان، ويتحول إلى مساحة شاسعة من المستنقعات الضحلة المليئة بالأمراض الفتاكة، ويتبخر معظم ما فيه من مياه، وهناك فكرة مدروسة هى أن ننشئ سدا عند قناة «جونجلى» فى جنوب السودان، وكان هذا المشروع قيد التنفيذ، ولكن أوقفته الحرب الأهلية فى السودان، الحرب انتهت الآن، والحاجة إلى المشروع قد تضاعفت، وهى تقضى بحفر مجرى جديد للنهر يبلغ طوله نحو ثلاثين كيلو تقريبا، بعيدا عن منطقة المستنقعات، ونوصله بعد ذلك بالمجرى الرئيسى للنهر، هذا المشروع وحده فقط سيوفر لمصر 70 مليار لتر مكعب من المياه، أكبر من حصتنا من النيل الأزرق، وستجف هذه المستنقعات لتصبح من أجود الأراضى الصالحة للزراعة، وستتولد طاقة كهربائية لنا وللسودان وجنوبه، وليس هذا هو المشروع الوحيد من نوعه، ولكن هناك فكرة أخرى تحتاج إلى الدراسة الجادة، وهى حفر قناة جديدة على نهر الكونغو تسمح بصب مياهه فى مجرى النيل، ونهر الكونغو هو أكثر أنهار إفريقيا غزارة فى المياه، حتى إنها تعلو ضفافه فى الأيام العادية، ولا يوازيه فى ذلك إلا نهر الأمازون، ويكون مصب نهر الكونغو فى المحيط الهندى بحيرة شاسعة الاتساع تختفى فيها شطآنه عن الأنظار، أى أن ما يفقد منه فى المحيط يفوق كل ما نحتاج إليه، هذا غير المشروعات المرتبطة ببحيرة ناصر التى ستقلل البخر وترشد من كفاءة استخدام المياه. لقد أعلنت إثيوبيا أن فترة إنشاء سدها تصل إلى 44 شهرا، وهى نفس المدة الباقية أمامنا حتى نقبل التحدى ونبدأ العمل، لا جدوى من البكاء على اللبن المسكوب، ولا داعى للتحجج بضعف الإمكانيات المادية عن القيام بهذه المشروعات العملاقة، فإثيوبيا الأكثر منا فقرا قد وجدت من يمولها، ليس من أجل هذا السد فقط ولكن لثلاثة سدود أخرى، لا يعلم الله ماذا ستفعل بنا، وقد تحرمنا من آخر قطرات النيل الأزرق، مشروعات مصر للمياه هى مشروعات منتجة، لن تفرج من أزمتنا الغذائية فقط، ولكنها ستولد المزيد من الطاقة النظيفة وتصلح المزيد من الأراضى، وسيسعد أى مؤسسة دولية المساهمة فيها، شريطة أن نضع لها تخطيطا جيدا، ونبعد عنها الانتهازيين الذين يريدون تحويل مصر كلها إلى نهب لهم، أمامنا أربعة وأربعون شهرا من التحدى، إما أن نكون جديرين بتحدى البقاء، وإما أن نتخاذل وننال ما نستحق وندفن فى رماد العدم.