في شتاء 1906، وقف الناقد التشكيلي الكبير "لوي فوكسيل" مصدومًَا في قاعة صالون المستقلين، يتأمل اللوحات المعروضة لمجموعة من الفنانين الشبان أطلقوا على أنفسهم اسم "المنعزلين"، وكانت لوحاتهم تغطي جدران الصالون بألوانها القوية، الصاخبة، والصادمة أيضًا، ثم لمح وسط القاعة تمثالًا صغيرًا من البرونز لطفل، يميزه أسلوب "دوناتيلو" الذي تتجلى فيه نعومة عصر النهضة، فصاح "فوكسيل": "دوناتيلّو وسط الوحوش الضارية!" فمن هم الوحوش؟ وما قصتهم؟ اقرؤوا الحكاية.. ذكرنا في المقال السابق أن "بول جوجان" تمرد على المدرسة التأثيرية، كما تمرد على حياته، فترك باريس وذهب إلى إحدى جزر المحيط الهادي النائية، حيث تحررت روحه، وريشته، وأسس مذهب التكوين الموحد "السينسيتيزم"، الذي استلهمه من "إميل برنار"، والذي تميز بالخطوط الخارجية الواضحة، المحددة للأشكال، في الوقت الذي ابتكر فيه زميل سكنه، ورفيق كفاحه "فان جوخ" أسلوبه الخاص، المُعتمد على الألوان القوية الصريحة. فان جوخ (بورتريه شخصي) وقد وافق "جوجان" في تمرده على المدنية، وعودته إلى البدائية، معظم فناني عصره، الذين اعتبروا الحضارة الحديثة ببريقها الخادع مرضًا، والفن الذي يعمل بمقتضاها يعد فنًّا مريضًا، وعليه لا بد من العودة إلى البساطة.. إلى الفن البدائي.. إلى الفطرة. وأُطلق على هذا الاتجاه الفكري الجديد وقتذاك مصطلح "العودة إلى الأرض"، ومما لا شك فيه أن المنادين به، استلهموا جوهره من النظرية الفلسفية التي نادى بها "جون جاك روسو" قبل ذلك بقرن، تحت عنوان "العودة إلى الطبيعة"، حيث اعتبر "روسو" أن الفنون الأرستقراطية، مثل فن "الباروك" و"الروكوكو" ، فنون مصطنعة، بعيدة عن حياة الناس، ونادَى بتحرير الفن من القيود، ليتسم بالبساطة، ويحاكي الطبيعة، التي هي منبع الخير والجمال. جوجان وتأثرًا بنظرية "روسو" ، واتجاه "العودة إلى الأرض"، وألوان "فان جوخ"، وتمرد "جوجان" بأسلوبه، الفني والحياتي أيضًا، أسس مجموعة من فناني باريس الشبان، عام 1900 جماعة "المعتزلة" أو "الفنانين المعتزلين"، والتي تحول اسمها فيما بعد إلى "جماعة الوحوش الضارية"، ثم "المدرسة الوحشية"، أو "الفوفيزم"، بعدما التصق بهم اللقب الذي أسبغه عليهم "فوكسيل" خلال صرخته التاريخية الشهيرة: "دوناتيللو وسط الوحوش الضارية". وقد جمع بين الوحوش تمردهم على الحركة التأثيرية، وهي الحركة الأكثر رواجًا وقتذاك، واهتمامهم في المقابل بالفنون البدائية، والإفريقية، والفن الفطري المتمثل في رسوم الأطفال. لم يكن لهؤلاء الفنانين في بادئ الأمر أسلوب موحد يميزهم، ولكن أعمالهم التي جمعت بين أساليب فردية عديدة، اتسمت جميعها ببساطة الأداء، واعتماد الخطوط الخارجية الواضحة المحددة للأشكال، وفي ذلك تأثر واضح بأسلوب "جوجان" الذي مهد للمذهب الوحشي، ويعتبره كثيرون الأب الروحي له، في حين يذهب آخرون إلى أن "هنري ماتيس" هو أبو المذهب، حيث إنه زعيمه بلا منازع، وأكبر مؤسسيه سنًّا، كما أن الحركة استفادت كثيرًا من تأثره بفن الزخارف الإسلامية، ومعالجته لبعض التكوينات الفنية بأساليب هندسية، وما كان لذلك من فضل لا ينكر على تطور الحركة إلى اتجاهات تقدمية جديدة، أشهرها المذهب التكعيبي. ماتيس وقد عرض "ماتيس" أعماله المنتمية إلى المذهب الوحشي لأول مرة، في صالون الخريف الفرنسي عام 1904، وتمكن بعد ذلك من لم شمل مجموعة كبيرة من الفنانين المتمردين، ليشكلوا الرعيل الأول للحركة، ممثلة في اتجاهين، اتجاه معتدل نسبيًّا يمثله "ماتيس" و"ديران" و"دوفي" و"ماركيه"، واتجاه عنيف يمثله "فلامنك" و"روو". ولكن العام 1905 شكل الانطلاقة الحقيقية للحركة، حيث عرض مؤسسوها أعمالهم، بصالون الخريف الفرنسي، وحصدت لوحة "ماتيس" الشهيرة، "منظر ريفي" المعروضة معهم، إعجابًا شديدًا في الأوساط الفنية، فانهالت عليه الدعوات من المؤسسات الفنية بشتى بقاع العالم لتدريس المذهب الوحشي. ماتيس ماتيس ماتيس بيد أن "ماتيس" نفسه لم يكن قد استقر على أسلوب محدد للمذهب حتى ذلك الوقت، فقد تجلى في أسلوبه في البدايات تأثره بفناني ما بعد التأثيرية مثل "سيزان" و"فان جوخ" بشكل عام، و"جوجان" بشكل خاص، ثم تطور أسلوبه بعد تفرق جماعة الوحوش عام 1908، من المبالغة في التحرر ليتجه إلى الزخرفة، التي تأثر بها بعد زيارته للمغرب وإعجابه بالفنون الزخرفية الإسلامية، فظهرت في أعماله الستائر المنقوشة والسجاد المزخرف، لتبقى وتستقر في لوحاته، بعدما وجد "ماتيس" في تفاصيلها كمال مذهبه. ورغم أن "ماتيس" هو مؤسس المذهب وزعيمه وصاحب الفضل في نشره، فإننا لا نستطيع أن ننكر تأثير كل من "أندريه ديران"، الذي طور أسلوبه بعد تفرق الجماعة أيضًا، فاتجه إلى تبسيط الكتل، الأمر الذي شكل فيما بعد أهم أسس المذهب التكعيبي، وأيضًا "موريس دي فلامنك"، الذي أسهم في دمج الفن الإفريقي بالمذهب، بعدما لفتت مجموعة التماثيل الإفريقية التي اقتناها نظر الوحشيين لهذا الفن البدائي، ودفعتهم لدراسته ثم التأثر به. موريس دي فلامينك موريس دي فلامينك ولكننا نستطيع أن نلخص مبادئ المذهب الوحشي، التي لم يختلف عليها الوحشيون رغم تفرد أساليبهم، في تبسيط الأسلوب الأدائي، وتجانس الضوء، والبناء المسطح دون استخدام الظل والنور، كما نستطيع أن نلخصها في قول "ماتيس": "إنه فن الإعداد للعناصر المختلفة بأسلوب زخرفي، يأخذ طريقه خلال تعبير الفنان عن مشاعره، وإن مطابقة الشكل الأدائي للمضمون يمكن تحويرها عن طريق رد الفعل الطبيعي، لأن التعبير إنما يبدو في السطح الملون الذي يراه الناظر كلًّا واحدًا". أندريه ديران