"لقد فقدنا الثقة في ثقافتنا، كل شيء يجب أن يُهدم، سنبدأ من جديد بعد أن نمحي كل شيء، سيبدأ صدام المنطق، الرأي العام، التعليم، المؤسسات، المتاحف، الذوق الجيد، باختصار .. كل شيء قائم". هذه الكلمات الصادمة من نص البيان الأول لحركة "الدادا"، التي انطلقت من سويسرا عام 1914 أثناء الحرب العالمية الأولى، في محاولة من مؤسسيها، لإثبات سخطهم وتمردهم على الأحداث السياسية المؤسفة، من خلال تحطيم كل القيم والثوابت والمعايير المتعارف عليها، في الفن التشكيلى، والمسرح، والأدب. وقد أسس الحركة "الدادية" في زيورخ بسويسرا مجموعة من الفنانين الفوضويين الهاربين أو المطرودين من بلادهم، ولم يكونوا جميعهم من التشكيليين، وإنما انضم إليهم أيضًا مجموعة من الأدباء والشعراء، وانتقل ظهور "الداديزم" من زيورخ إلى نيويورك، ثم استقر أخيرًا فى باريس، حيث أسس زعماء الدادية ناديًا أدبيًا أطلقوا عليه اسم "كباريه فولتير"، وأصبح المكان ملتقى ثقافيًا تُعقد فيه المنتديات الأدبية والمعارض الفنية. وقد فوجئت وأنا أبحث فى تاريخ "الدادا"، أن "كباريه فولتير" نظم عام 1917 معرضًا ضم أعمالاً لقامات فنية كبيرة، مثل "موديليانى" و"بيكاسو" و"كاندينسكى" و"كوكوشا" و"هانس آرب"، وقد كانت أعمال النحات "هانس آرب" أكثر ما حمل سمات "الداديزم"، من خلال أسلوبه الذي أطلق عليه وقتذاك اسم "الأشكال التحررية". وفى عام 1919 افتتح فى باريس صالونًا فنيًا خاصًا لأعمال الدادا باسم "صالون مونتين"، إلا أن حركة الدادا الفرنسية حملت طابعًا أدبيًا أكثر منه فنيًا، فقد كان زعيمها في باريس هو الشاعر بريتون. ورغم أن الدادية تأسست بعيدًا عن المجال السياسي، بل إن تأسيسها كان هربًا من الحرب العالمية الأولى، إلا أنها اصطبغت بطابع سياسي فى ألمانيا، وبدا ذلك جليًا فى معارضها ببرلين، والتى تضمنت إنتاجًا ضخمًا للعديد من الفنانين أشهرهم رسام الكاريكاتير "جورج جروس" الذى اشتهرت أعماله بالنقد اللاذع. قد يرى البعض أن "الدادا أو "الداديزم"، ثورة فكرية فوضوية مدمرة، هدمت جميع النظريات الفلسفية والجمالية، لكن لا أحد يستطيع نكران أن هذا الهدم انقلب فيما بعد إلى بناء، وهذه الفوضى تحولت إلى نظام، حيث إن "الداديزم" شكل النواة الأساسية التى قامت عليها المدرسة السريالية، إحدى أهم المدارس الفنية فى العصر الحديث، وآخرها، وأكثرها رواجًا.