تاريخ النشاطات النووية الإسرائيلية منذ بدايتها وحتى الآن، هو تاريخ الغموض وعدم تسريب أي حرف عما يجرى في الأقبية والمعامل والمفاعلات وحجرات تخصيب اليورانيوم منذ عشرات السنين، وتعتمد تل أبيب على هذه السياسة معتبرة أن ذلك الغموض سيخيف جيرانها ودول العالم إذا ما فكرت في شن هجوم عليها أو الدخول في حرب معها، وسيجعل هذه الدول تضخم من قدرات إسرائيل الذرية؛ ربما أضعاف وأضعاف ما لديها بالفعل. شيمون بيريز االرئيس الإسرائيلي ووزير الدفاع الأسبق وأحد مؤسسي البرنامج النووي في تل أبيب، لم يخف إتباع تل أبيب لهذه السياسة؛ وفي لقاء إعلامي له منذ سنوات؛ دافع عن لعبة الغموض هذه واللايقين بزعمه إن "النووي يشكل نوعا من الردع وأداة للتوصل إلى السلام وليس الهجوم". التحالف الأبدي بين إسرائيل وأمريكا كان له انعكاسه أيضا على فكرة الغموض النووي التي تتبعها تل أبيب، صحيفة "هآرتس" العبرية كشفت منذ فترة عن اتفاق جرى عام 69 بين الجانبين الأمريكي والإسرائيلي؛ بالتحديد بين جولدا مائير رئيسة حكومة تل أبيب وقتها والرئيس الامريكي الأسبق ريتشارد نيكسون يتضمن عدم ممارسة واشنطن ضغطا على اسرائيل للانضمام لميثاق منع نشر السلاح النووي، ومقابل ذلك تلتزم تل أبيب بعدم الإفصاح عن كونها نووية. ولأن أي جدار لابد له من فتحة حتى وإن كانت صغيرة تنفذ منها الأشياء؛ فإن السور الذي أحاطت به إسرائيل مشروعها الذري، كان به ثقب لم تنتبه له تدفقت منه المعلومات عن نشاطاتها الذرية، نقصد بذلك موردخاي فعنونو، عاملا فنيا كان من بين طاقم مفاعل ديمونا الإسرائيلي وكان عمله يتضمن مراقبة نسب الإشعاعات، وبعد تهريبه لكاميرا داخل المفاعل، التقط صورا للمفاعل عام 86 كاشفا أسرار البرنامج الإسرائيلي الذي يهدف لإنتاج قنابل نووية ووضعها في صواريخ باليستية أو طائرات أو غواصات، ليحطم بذلك أكاذيب حكومة إسرائيل التي كانت تدعي أن ديمونا ليس أكثر من مصنع لأنتاج النسيج، وهي القصة التي كان يرددها رئيس وزرائها الأول ديفيد بن جوريون ثم غيرها بعد ذلك مدعيا أن المفاعل "لأغراض سلمية".
ما كشفه فعنونو عن البرنامج النووي الإسرائيلي، دفع الكثيرين من الخبراء إلى تقدير حجم ترسانة تل أبيب الذرية في الثمانينات ب 200 سلاح نووي، وفي منتصف التسعينات ب 400 سلاح نووي، ما يعني لو صحت هذه التقديرات، أن إسرائيل هي القوى العظمى ال6 في العالم فيما يتعلق بهذا المجال.
بالطبع لم تصمت تل أبيب على هتك ماتراه قدس أقداسها وتسليط الضوء على خفاياها وخباياها، فكان اختطاف فعنونو، العصفور الذي فر من القفص الذهبي كما سمته صحف العالم، على يد عملاء الاستخبارات الإسرائيلية من إيطاليا ومحاكمته بتل أبيب؛ ليصدر عليه حكما بالسجن مدى الحياه. فعنونو لم يكن وحده الذي دخل ما كانت تراه تل أبيب "أرض محرمة" وكشف اللغز؛ حيث كشف أفنير كوهين وبيل بروعن، الباحثان في المجال النووي عن زوايا جديدة لنشاطات تل أبيب الذرية، وعن صفقة سرية بين النرويج وإسرائيل لبيع الماء الثقيل للأخيرة،والذي يستخدم في تصنيع القنابل الذرية. وقبل أيام تم رفع ستار جديد عن مسرح العمليات النووية الإسرائيلية؛ لتكتمل الصورة أكثر فأكثر عندما كشف معهد المعلومات والأمن الدولي الأمريكي عن حصول تل أبيب على 660 كيلو جرام من الماء الثقيل منذ بدء تشغيل المفاعل عام 63، واستخدامها في تصنيع 115 رأساً نووياً. بدأت حكاية النووي الإسرائيلي مع بن جوريون وحكومته؛ ففي خمسينيات القرن الماضي ومع نهاية حرب 48 توصلت هذه الحكومة إلى قناعه مفادها أنه لابد من التزود بالسلاح الذري من أجل تحقيق ردع للدول العربية؛ وقال بن جوريون وقتها -وفقا لما كشفته تقارير إعلامية إسرائيلية عديدة- إن الدول العربية يمكنها أن تخوض سلسلة من المعارك والحروب مع تل أبيب دونه أن تباد أو تفنى هذه الدول نظرا لعدد مواطنيها الكثيف، لكن بالنسبة لإسرائيل فالأمر يختلف، ووفقا لعبارة بن جوريون "إذا دخلنا حربا واحدة دون أن يكون لدينا سلاح نوويا سنباد؛ لأن العرب سيحجمون عن فكرة القضاء علينا لو كان لدينا هذا السلاح". الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية تعتبر أيضا من بين الأمور التي حاولت إسرائيل إخفاءها؛ إلا أن تقارير إعلامية إسرائيلية وغربية كشفت عن حجم هذه الترسانة أيضا، والتي قدرها الكثيرون بأنها تعتمد على صواريخ أريحا 1 وأريحا 2 وأريحا 3 التي يصل بعضها إلى مسافة 4500 إلى 7000 كيلو متر، وتحمل رؤس نووية يصل وزنها إلى مئات الكيلوجرامات، بشكل يسمح لهذه الصواريخ بقصف غالبية أراضي قارة أسيا وكل أوروبا وأفريقا والأجزاء القريبة من أمريكا الشمالية. والمثير للسخرية أن زلات اللسان أحيانا تكشف ما لا تفعله أجهزة الاستخبارات العالمية وعمليات الرصد الجوي والتنصت؛ نقصد بذلك إيهود أولمرت رئيس حكومة تل أبيب السابق، ففي مقابلة مع وسائل الإعلام الألمانية عام 2006 ، صنف الأخير إسرائيل كعضوة بنادي الدول الذرية على الصعيد العالمي، ما سبب موجات من الغضب في تل أبيب؛ بسبب ما رأته في تصرف رئيس الحكومة من انتهاك لسياسة التعتيم على النشاطات النووية غير السلمية لإسرائيل . وكان الإعلام الألماني قد سأل أولمرت عن دعوات طهران لإبادة تل أبيب، فأجاب قائلا" ايران هددت بشكل صريح وعلني بمحونا من الخارطة، فهل يمكننا أن تقول دول تملك أسلحة نووية هذا الكلام، مثل أمريكا وفرنسا وإسرائيل وروسيا؟". هذه العبارة أقامت الدنيا ولم تقعدها في تل أبيب، وشنت وسائل الإعلام الإسرائيلي وكثير من مسؤوليها موجة انتقادات لأولمرت، الذي حاول استدراك الأمر والتغطية على خطأه عبر بيان لمكتبه قال فيه أن "التصريحات اقتطعت خارج السياق" وأن "رئيس الحكومة لم يكن يتحدث عن دول نووية"، وخرج عدد من مسؤولي تل أبيب يزعمون أن رئيس الحكومة رفض كثيرا خلال المقابلة تأكيد امتلاك تل أبيب للسلاح الذري، وأعطى البعض مبررات بأن أولمرت كان يتحدث بالإنجليزية لا العبرية. لكن هذا لم يوقف الهجوم ضد أولمرت، وطالب البرلماني الإسرائيلي يوفال شطاينتس رئيس الوزراء بالاستقالة، ووصفها وزير الخارجية وقتها سيلفان شالوم بأنها ستضر بتل أبيب ، وبدوره لفت يوسي بيلين -البرلماني الإسرائيلي- إلى أن عدم مبالاة رئيس الحكومة تدل على عدم أهليته وأحقيته في أن يشغل منصبه .