شيئان شوَّهت السينما سمعتهما فى بلادنا العربية، ولسوء حظى كنت من المُبتلين بمهمة الدفاع عنهما: الفن التشكيلى والشيوعية، فقد اعتبرتهما السينما مادة خصبة لإثارة الضحك والسخرية، ورسخت لصورة التشكيلى أو الشيوعي الذى لا يرتدى سوى ملابسه الداخلية، ويكره الاستحمام، فأصبحت "الرفيقة الدادا أم عطيات" أحد رموز الشيوعية، بينما شكل "عيسوى" الصورة الذهنية للفنان التشكيلى البوهيمى! بل إن (الاستخفاف) طال المصطلح نفسه، فأصبح التعقيب الرسمى للعوام على "فن تشكيلى" هو "فن تشكيلى وأشكيلك"!
وقد اخترت المذهب التجريدى لأول مقالاتى عن المذاهب التشكيلية، لأنه المذهب الذى يناله القسط الأكبر من (التريقة). أولاً: وجب التنويه بأن معظم مذاهب الفن التشكيلى الحديث قامت على تحريف الخطوط الخارجية للأشكال، بما يخرجها عن واقعيتها نسبيًّا ويجعلها تتخذ طابعًا رمزيًّا، أما التجريد، سواء كان كليًّا شاملاً أو جزئيًّا نسبيًّا، فهو حالة أكثر رمزية من غيره، حتى إن البعض يصفه بأنه رؤية تصوفية، تقوم على نزع الصور العضوية عن الأشكال والخلاص من مظاهرها وقيمها الجمالية، والانتقال بها من صورتها العرضية إلى أشكالها الجوهرية الخالدة، حيث التحول من الخصائص الجزئية إلى الصفات الكلية، ومن الفردية إلى التعميم المطلق، ولكنه فى نهاية الأمر يعطى إيحاء بمضمون الفكرة التى يقوم عليها العمل الفنى.
وهناك نوعان من التجريد، تجريد كلى، يقوم على تعرية الأشكال من صورتها الطبيعية والعضوية، وتجريد جزئى، يكون بالحد من عضوية هذه الأشكال وواقعيتها الطبيعية، ولكننا نستطيع أن نقول إن الفن التجريدى فى مجمله هو "الفن الرمزى" الذى يعمل على تصوير المطلق عن طريق الانتقال بالموضوع من نطاق الجزئيات إلى حيز الكليات. وقد كان للفلاسفة الأسبقية فى الأبحاث التجريدية من قبل أن يكون للفنانين هذا الوعى المتعلق بالطراز الحديث، فأصدر الفيلسوف الألمانى "فيلهلم فورينجر" كتابه (التجريد والتصور) عام 1908، فى الوقت الذى لم يظهر فيه أى عمل فنى تجريدى قبل عام 1910، وبعدها أصدر الزعيم الأول للحركة التجريدية، الفنان الروسي الأصل "كاندنيسكى" كتابه (فن الانسجام الروحى) عن التجريد والروحية، وأنجز أول عمل فنى يحمل صفات التجريد الكاملة.
واعتُبر "كاندنيسكى" مؤسس العهد الأول لفن التجريد، فيما اعتبر "موندريان" مؤسس العهد الثانى، بعدما نشر آراءه عن التجريد بمجلة (دى استيل) الهولندية، وتحدث بها عن اتجاهه الفنى الجديد الذى أسماه بالتشكيلية الحديثة. ثم توالى ظهور المدارس التجريدية، فظهرت "مدرسة أمستردام وباريس التجريدية" و"مذهب الأولية التجريدية"، و"الحركة الإشعاعية أو مذهب الرايونيزم"، و"مذهب السوبرماتيزم" و"الرؤية التركيبية"، كما ظهر المذهب التجريدى بنفس مسماه وبأشكال عديدة فى "أمريكا" و"إيطاليا".
بالطبع لا يتسع صدرك عزيزى القارئ، كما لا تتسع مساحتي لشرح كل مذهب من المذاهب السابق ذكرها، لذا سوف أحاول أن ألخص لك كل ما سبق فى الجملة الآتية: المذهب التجريدى هو تصوف الفن التشكيلي، الذى يهدف من وراء الرمز إلى ما وراء الطبيعة للوصول إلى المطلق.. فخمتو؟!