هناك حكايات يجب أن تروى لأنها تحتشد بمعان نبيلة ومواقف مشرفة، خاصة إذا ارتبطت تلك الحكايات بنهضة بلد وتطور مدينة، واليوم 3 نوفمبر تكمل مؤسسة (ندوة الثقافة والعلوم) بدبي 28 على إنشائها، فما قصة هذه المؤسسة؟ وماذا تفعل بالضبط؟ وكيف تسهم بنصيب في نهضة شعب وتطور مجتمع؟ تعال أقص عليك نبأ (ندوة الثقافة والعلوم) عسى أن نستلهم الفكرة في مصر ونطورها بما يلائم المزاج العام المصري ومستوى ثقافته ونشاطه في وقتنا الحالي. تبدأ الحكاية في 3 فبراير من عام 1987 عندما ارتأى عدد من مثقفي أهل دبي بدولة الإمارات أنه من الضروري تشييد مؤسسة ثقافية أهلية تلعب الدور المأمول في تعزيز النشاط الثقافي والإبداعي في الإمارة، من منطلق أن العمل الثقافي مرهون بقدرة المثقفين وأصحاب الرؤى على تفعيله بصورة إيجابية بعيدا عن شروط المؤسسات الحكومية ومتطلباتها. وقد كتب في محضر التأسيس هذه الفقرة بالنص: (انطلاقا من رغبة صادقة لدى مجموعة من المهتمين بقضايا الفكر والثقافة لإيجاد تجمع ثقافي بمدينة دبي يشكل مناخا مناسبا لممارسة النشاطات الثقافية التي تخلق التوازن بين قضايا التنمية بالمجتمع... ومنطلقا بعيدا عن الصراعات الفكرية التي تعم بعض المؤسسات الثقافية، فقد تقدم السيد/ إبراهيم أبو ملحة بدعوة كريمة بمنزله لبّاها كل من السادة سلطان علي العويس/ عمران سالم العويس/ خالد محمد أحمد/ محمد خليفة بن حاضر/ محمد المر/ سيف المري/ سعيد عبد الله حارب/ سالم الموسى/ عبد العزيز خليل/ بلال ربيع البدور ونبيل عبد الرحيم العوضي). في هذا البيت الكريم وضعت اللبنة الأولى في تشييد أكبر صرح ثقافي بدبي الذي أعلن عن إطلاقه رسميًا في 3 نوفمبر 1987 . لك أن تعلم أن هذه الكوكبة المعتبرة تضم ستة من كبار رجال الأعمال بالإمارات، وكتاب قصة وشعراء وصحفيين ونقاد أدب، وأن السيد إبراهيم أبو ملحة صاحب الدعوة أصبح فيما بعد أول نائب عام في دبي، وأن السيد محمد المر صار رئيس المجلس الوطني - أي البرلمان - فيما بعد. وأن سلطان العويس صاحب أهم جائزة ثقافية في العالم العربي يتنافس فيها كبار المبدعين، وأن السيد بلال البدور صار سفيرا لدولة الإمارات بالمملكة الأردنية. اهتمت ندوة الثقافة والعلوم بالمواهب الإماراتية في المجالات كافة، فخصصت الجوائز السخية للمبدعين مثل جائزة العويس للإبداع وجائزة راشد للتفوق العلمي، ونظمت فعاليات متنوعة من محاضرات وندوات ومعارض. وأبدت اهتماما خاصًا بإبداعات الشباب ورعت أنشطتهم. المدهش أن الندوة التي بدأت نشاطها في شقة مستأجرة في بناية بوسط دبي، انتقلت قبل ثمان سنوات إلى مبنى ضخم باهر الروعة والجمال يشرف على خور دبي (الخور لسان مائي يتفرع من الخليج العربي). هذا المبنى الفاتن - تكلف بناؤه نحو 25 مليون دولارًا - يعكس بذكاء أجواء دبي حيث الحداثة المذهلة ممتزجة بالتراث العربي الإسلامي في سبيكة هندسية معمارية تسحر الألباب. يضم المبنى مسرحا يسع ألف مشاهد وقاعات للمحاضرات والمعارض ومكتبة ضخمة تحوي نحو 40 ألف كتابًا وأكثر من ثلاثة آلاف رسالة دكتوراه وماجستير، علاوة على مئات الدوريات المحلية والعربية. طوال تاريخها العامر لم تُقصر الندوة نشاطها على أهل الإمارات فحسب، وإنما تمدد طموحها إلى عالمها العربي المحيط لأن القائمين على الندوة يدركون تمامًا أن الثقافة العربية منصهرة في بوتقة واحدة رغم التنوع الخلاق الذي تتسم به، وهكذا استضافت الندوة نخبة من المثقفين والمسؤولين العرب الكبار (حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية وجابر عصفور وأسامة الباز وفاروق الباز وجمال الغيطاني على سبيل المثال، فضلا عن عشرات من المصريين والعرب)، هؤلاء ألقوا محاضرات وأثاروا الأسئلة عن حاضر الأمة العربية ومستقبلها، فانفعل الجمهور بآرائهم وتفاعل معهم. الأديب القدير معالي محمد المر رئيس المجلس الوطني هو الأب الروحي للندوة، وهو الذي تولى رئاسة مجلس إدارتها في الدورتين الأولى والثانية، ومازال ظله الأخضر يحتضن الندوة ويرعاها بأفكاره المستنيرة ومقترحاته الذكية، كذلك يعد سعادة سلطان صقر السويدي رئيس مجلس إدارة الندوة الحالي واحدًا من أخلص أبناء الإمارات عشقا للثقافة والإبداع، وكان عضوا في المجلس الوطني، ومازال بنشاطه الدؤوب يدير دفة الندوة بحصافة وألمعية. محظوظ لا ريب من ينعم بزيارة مقر (ندوة الثقافة والعلوم)، وقد شرفت بالعمل في الندوة منسقا ثقافيا وإعلاميا في الفترة من سبتمبر 2010 حتى سبتمبر 2013، وكم كانت سعادتي بالغة عندما اقتربت من مثقفين إماراتيين كبار أمثال الأستاذ الدكتور عبد الخالق عبد الله رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الإمارات ورئيس اللجنة الثقافية بالندوة في ذلك، والأديب الباحث القدير سعادة بلال البدور نائب رئيس الندوة سابقا، والإعلامي المتميز علي عبيد الهاملي نائب رئيس مجلس إدارة الندوة حاليًا ورئيس تحرير مجلة (حروف عربية) التي تصدرها الندوة، وهي المجلة الوحيدة في العالم المتخصصة في فنون الخط العربي. ألم أقل لك إن حكاية (ندوة الثقافة والعلوم) يجب أن تروى عسى أن نستلهم الفكرة عندنا في مصر، ولكن - دون أن يغضب أحد - هل نحظى برجال أعمال يقدرون الثقافة ويشجعون الإبداع؟
