«يا رب».. أسمعها من وراء الباب مصحوبة بتنهيدة من القلب، أفتح لها فتبالغ في الابتسام لمداراة الألم، بعد تبادل التحية تتجه إلى المطبخ وتجلس دقائق لتستريح من مشقّة رحلتها اليومية من «تلال زينهم» جنوب حي السيدة زينب إلى «القاهرة الجديدة»، مستخدمة 4 مواصلات (توك توك، وأوتوبيس نقل عام، وميكروباص، وأوتوبيس نقل خاص)، ترتدي ملابس الشغل، وتبدأ في غسل الصحون أولًا، ثم تنظيف المطبخ، وغسل الملابس، وكنس السجاد، وتلميع الأسطح، ومسح الأرضيات، وترتيب الأسرّة، ودَعْك الحمامات بالكلور، وتنظيف قَرَفنا.. أراقبها أحيانًا وهي تستريح على درجات السُّلَّم، مكافئة نفسها بكوب شاي ترشف منه القليل ثم تنظر مهمومة إلى الجردل والفِوَط والمكنسة، فتتنهَّد وتقول مواسية ومشجعة نفسها: «يا رب»، ثم تستأنف العمل. آخر اليوم تستأذن مني في وضع قطرات من زيت الزيتون على جلد يدَيها المتآكل من أثر المنظفات والبُهاق، أداعبها بالتأكيد أنهما أحب إلى الله من أيادي الهوانم المطلية أظافرها، تمد إحداهما لتتقاضى أجرها الذي لا يعادل ثمن وجبة عائلية من «كنتاكي»، ثم تشكرني بنفس الابتسامة الراضية.. تقف أمام الباب ترتدي حذاءها الذي ذاب نعلاه على طريقها المستوحش، تلملم بفرحة عابرة الأكياس التي تحمل بعض ملابسي القديمة وباقي صينية مكرونة وتورتة سطحها مشوَّه بعد أن اكتفى أبنائي بأكل زينتها من الكريز والكريم شانتيه، ثم تنظر أمامها وتأخذ نفسًا عميقًا استعدادًا لرحلة المواصلات الأربع، وهي تشجّع نفسها بالكلمة نفسها: «يا رب».
هذا الشقاء هو جدولها اليومي الذي لا يتغيَّر، تلتزم به منذ سنوات طوال بمنتهى الرضا والتسليم لإرادة الله، من أجل إعالة أسرتها الصغيرة المكونة من زوج عاطل، وطفل مصاب بإعاقة ذهنية تقاتل الحياة وتهزمها من أجل عينَيه، ولا تقبل العمل يومَي السبت والإثنين، مهما كانت الإغراءات المتمثلة في بواقي العزومات وبقشيش الضيوف، فهما اليومان المخصصان لجلسات علاجه، رغم أن الأطباء أخبروها مرارًا أن العلاج لن يجدي نفعًا أو يطيل عمرًا في حالته المتأخرة، هذا ما تكرره كلما سألتها عن صحة «مصطفى»، ولكن قلبها يأبى أن يُسلّم بذلك، فيجبرها أن تلحق بكلامها نفس الجملة في كل مرة «ربنا كبير»، ثم ترفع رأسها وعينيها إلى أعلى وهي تتنهد: «يا رب».
«أم مصطفى» التي أعرفها منذ عشر سنوات، ولا أعرف لها اسمًا سوى «أم مصطفى»، كما تحب أن تُنادَى، لم يكن لها في السياسة قبل ثورة 25 يناير، فقد كانت مستكينة تمامًا رغم فقرها، وربما بسببه، لحكم مبارك، حتى إنها طلبت إجازة يوم الانتخابات الرئاسية الهزلية التي أُجريت عام 2005، لتؤدّي واجبها كمواطنة مصرية صالحة تصوّت (للريّس اللي مالناش غيره) -حسب تعبيرها- ولكنها بدافع وطني غريزي وقفت تزغرد فرحة بجموع الثوار التي مرَّت من أمام نافذتها يوم 25 يناير!
ثم عضّت بنان الندم في عهدَي المجلس العسكري والإخوان، على هذه المشاركة الرمزية، خصوصًا بعد مقتل ابن جارتها «مُحسن كولا» في أحداث الاتحادية، ولكنها عادت وصححت خطأها -كما تظن- يوم وقفت تسكب على متظاهري الإخوان مياه الغسيل من نفس النافذة بعد «30 يونيو» بأيام.
ورغم أنها لا تعرف عن تاريخ مصر سوى ما شاهدته في فيلمَي «وا إسلاماه» و «صلاح الدين»، بالإضافة إلى ما عاصرته من أحداث، فإنها تؤكّد دائمًا أنها (مش متسقفة بس واعية)، وتتفاخر بإتمامها تعليمها الابتدائي، مبرهنة على ذلك بتعمّدها قراءة سطور من مانشيتات الجرائد التي تستخدمها في تلميع الأسطح الزجاجية بصوت مسموع، ثم مناقشتي -أو جرّ شكلي- في ما قرأته، وعادة تدور بيننا حوارات طويلة على إثر قراءتها المانشيتات، وأتحاشى خلالها أن أصدمها بما يخيّب أملها الذي يحلّق كل يوم في آفاق أعلى، منذ أن قامت بانتخاب السيسي، فتسألني مثلًا: «بيقولوا العاصمة الجديدة دي هايبقى فيها فرص شغل ياما.. صح يا مدام؟!»، فأكتفي بقول «يا مُسهّل»، أو تسألني بشغف طفولي: «شوفتي حفلة قناة السويس الجديدة يا مدام؟» فأقول: «آه.. حلوة».. وهكذا.
بالأمس جاءتني وعيناها متورمتَين من أثر البكاء، سألتها عما يحزنها، فاكتفت بقول: «ربنا باينّه نسينا يا مدام»، ثم دخلت المطبخ وعادت بمجموعة من الجرائد الحديثة وعلبة «جلانس»، سألتني وهي تقلبها: «هُمَّ صحيح يا مدام اكتشفوا غاز تحت الأرض هايخلينا أغنى من السعوديين؟»، ادّعيت أني منشغلة في القراءة واكتفيت بالابتسام، فقطعت صفحة الجريدة وطبّقتها وبدأت في تلميع الزجاج، وهي تتنهد: «يا رب».